لغة الخطاب القرآني آيات الإمامة والشورى إنموذجا

  • نشره :

  • 24 - 05 - 2015
  • 7283
منهج البحث اتخذ الباحث من المنهج العلمي الموازن الطريق الامثل للولوج الى مظن البحث العلمي الذي تمحور على بحث الخلاف عند الامة في نظريتي الخلافة والامامة بناءا على تفسير المعصوم وغير المعصوم للنص القرآني وعلى هذا الاساس ولمقتضيات البحث انقسم البحث الى شقين ، الاول اختص بعرض نظرية الخلافة وحاول الباحث من خلاله ان يستطلع آراء القائلين بنظرية الخلافة والاسس التي اعتمدوها في تفسير آيات التنزيل بما يقتضي تأصيل هذه النظرية عند ابناء السنة والجماعة ،

واشتمل الشق الثاني على بحث نظرية الامامة وحاول الباحث ان يقف على الاسس التي استند عليها القائلون بهذا المذهب ، وقد احتوى البحث ايضا ملاحقة كل الآراء ملتزما المنهج العلمي الرصين في تبيان صالح الافكار من فاسدها بين النظريتين ، وكان لابد من التمهيد لفكرة البحث بشرح موجز عن اصل القضية واصولها ، فعمد الباحث الى وضع تمهيد بذلك ليتسنى للقارئ اخذ الصورة الكافية والمتكاملة عن اصل الخلاف  ...

كما جعل الباحث من المنهج اللغوي الحديث في تحليل النص ولغة الخطاب اساسا للتحليل اللغوي الذي يقوم على مقتضيات الاشارات في النص وتبيان البنية العميقة من خلال العلاقات الاسلوبية التركيبية التي حددت النص بدلالة مركزية وبموضوع بعينه ، فالنص يفسر نفسه من خلال وضع اليد على تلك الاشارات اللغوية التي تعد في علم الاسلوبية الحديث اشارات تقيد دلالة النص في معنى بعينه .... ومن هنا لا يمكن الركون الى التأويلات التي تحمل النص ما لا يحتمل من الدلالات التي قد يكون بعضها عاما وبعيدا عن روح النص او اصل نزوله .

 وثمة تفسيرات مأثورة عن جملة من المفسرين للآيات القرآنية عامة والآيات مظن البحث ليس فيها ثمة ارتباط بين لغة النص ومفهومه الذي يقوم على ما استعمل من الفاظ وتراكيب تؤدي وظيفة بعينها من خلال اشارات اسلوبية يحتويها النص وتكون مقيدة للدلالة السياقية ومؤدية معنى بعينه ، ولعل تحليل الخطاب على وفق مقتضيات الاسلوبية الحديثة يقدم تفسيرا معقولا مبتنيا على التحليل اللغوي الواقعي للنصوص مظنة البحث مما يضع اليد على صحة مذاهب بعضا من المفسرين وفساد البعض الآخر وذلك بحكومة النص لنفسه من خلال العلاقات والاشارات اللغوية التي افرزها المنهج البنيوي والاسلوبي الحديث في ملاحقة النصوص اللغوية ..

والله ولي التوفيق


تمهيد

بعد ان مضى المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مرتفعا الى الرفيق الأعلى انقطعت الرسالات السماوية عن الناس ، فلم يبعث الله تعالى الا نبيا واحدا هو الخاتم للرسل والرسالات السماوية وهو نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

 اذ النبي محمد (ص) من ارض العرب ، على فترة من الرسل ، ذلك ان الوعد الالهي قد احاط المؤمنين من اليهود والنصارى ببشارة النبي الخاتم ، كما صرح القرآن الكريم ، وعلى ذلك يكون النبي الخاتم مصدقا لما اتى به اليهود والنصارى معاً ، وهذا ما تحقق فالقرآن الكريم يشتمل على مجموعة كبيرة من العقائد التوحيدية التي هي مظن التطابق مع ما سبق من الاديان والرسالات السماوية .

 وقد جرى النسخ فقط في الأحكام التعاملية وبعض هيئات العبادات ، اما على مستوى عقائد التوحيد وما شاكل من العقائد التي تدل على معرفة الله واثبات وجوده ووحدانيته ،فقد بقيت ثابتة بلا نسخ ، فلا يمكن ان يأتي الدين الجديد الا مصدقا لما بلغ به رسول الدين السابق ، اذ ان صاحب البلاغ هو واحد وهو الله تعالى .. ومن هنا كان لزاما على كل مسلم أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ليتصف بكونه مسلما مؤمنا [1].

 وبعد مسيرة لثلاث وعشرون عاما خلت في حياة الرسول الأكرم محمد " صلى الله عليه وآله " بلغت الدعوة الإسلامية شأنا يحسب حسابه من قبل القاصي والداني في ذلك الوقت ، وكان لابد من ان يشتمل الدين الخاتم على تعاليم كاملة تحيط بحياة الإنسان بكل جوانبها ، فليس ثمة دين آخر ينسخ حكما او يثبت حكما آخر يأتي من بعد الدين الاسلامي الحنيف ، ومن هنا شملت التعاليم الاسلامية السمحاء كل جوانب الحياة ، التي كان من ابرزها تنظيم الحياة السياسية .

لقد كان الرسول الاكرم يمثل السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في آن واحد ، وهذا شأن الانبياء من قبل ، بل ان الناموس الالهي يقضي بان يتولى الرسول مباشرة الحكم بنفسه ، فهو الاقدر على ذلك لوجود التسديد الالهي الذي عصم النبي من الوقوع في الخلل او الخطأ فهو النبي صاحب الامامة التي امتنعت الا عن اولي العزم من انبياء الله تعالى، فليس كل نبي اماما .

وكان جميع المسلمين متفقين على ضرورة تشكيل الحكومة جريا على سنة رسول الله في مباشرة الحكم وقيادة المسلمين وتحقيق العدل والمساواة والخير لأفراد المجتمع كما اراد الله تعالى .

وعلى هذا الاصل نشأت نظريتان عند اكبر فريقين من الفرق الاسلامية ، الاول قد طرح مشروع الخلافة ، اما الثاني فقد طرح مشروع الامامة ، وكل قد اعطى الحجة النقلية والعقلية على صحة اتجاهه السياسي ، لكن الفريقين قد اتفقا على ان لا فصل بين السياسة والدين مطلقا .

ولعل جملة من العوامل السياسية والاجتماعية قد اثمرت عن وجود تفسير للنص القرآني كان قد توافق مع اصحاب كل اتجاه فضلا عن لزوم الحجية عقلا ونقلا في تبني أي من الاتجاهين في نظرية الحكم الاسلامي وكان الامر بالخلافة او الامامة قد برز الى الحياة السياسية في الفترة التي اعقبت وفاة النبي الاكرم محمد " صلى الله عليه وآله " .

ولعل السبب الرئيس من وراء بروز اتجاهين في نظرية الحكم الاسلامية على الرغم من ان مبلغ الرسالة هو واحد من عند الواحد ، هو تفسير النص في الخطاب القرآني ، فالأصل ان يفسر النص القرآني ممن هو اهل له فلا اصل ولا اعتبار لتفسير العوام من الناس للنص المعصوم .

 والبحث هنا قد اخذ من الآيات القرآنية التي كانت مثار الخلاف في التفسير القرآني الذي اختص بنظام الحكم الاسلامي الواجهة العريضة التي من خلالها يتوصل الباحث الى تأثير فهم النص ومحاولة غير المعصوم تفسيره وآثار ذلك على مسار الحياة السياسية عند المسلمين وما تسببت به من انحرافات عملاقة في تاريخ المسلمين السياسي ..


اولا - الخلافة

 

الخلافة في اللغة : الخَلْفُ ضدّ قُدّام قال ابن سيده خَلْفٌ نَقِيضُ قُدَّام ويقال خَلَفَ له بالسيفِ إذا جاء من وَرائه فضرَبه وفي الحديث فأَخْلَفَ بيده وأَخذ يدفع الفَضْلَ واسْتَخْلَفَ فلاناً من فلان جعله مكانه وخَلَفَ فلان فلاناً إذا كان خَلِيفَتَه([2]).

اما الخلافة اصطلاحا فهي : الامارة([3]) ، وقد ذكرت الخلافة في الاصطلاح القرآني لتعبر عن مفهوم في غاية السمو والرفعة وهو اصطفاء الله سبحانه وتعالى من ينوب عنه ، ويقوم مقامه في تحمل مسؤولية إعمار الأرض وتسخير مقدراتها وخيراتها ، من أجل السير بالبشرية نحو سعادتها الحقيقية لأن القوم المستخلفين هم ليسوا المالك الحقيقي ، وأنما هم خلفاء المالك الأصلي، وهو الله سبحانه وتعالى .

 فهم ليسوا مطلقي الحرية والتصرف كما شاءوا بالإمكانات والسلطات الممنوحة إليهم، ودون قائد رباني، فإن الناس سينحرفون تماماً عن الخط الإلهي المرسوم، لما تزخر به النفس الإنسانية من نزوات، وأطماع، وحب التسلط .

والخلافة بهذا المعنى على ثلاث درجات :

الدرجة الأولى : استخلاف النوع الإنساني لتميزه عن باقي المخلوقات وعناصر الكون الأخرى من ملائكة ، وجن، وحيوانات ، ونباتات ، وجمادات ، كما في قوله تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا") [4].
وقوله تعالى :( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماءكلها)[5].
والاستخلاف في الآية الأخيرة ، ليس لشخص آدم عليه السلام ، وإنما للنوع الإنساني ( بني آدم ) ، لأن آدم عليه السلام لم يكن مفسدا " في الأرض ، ولا سفاكا " للدماء ، وكان ذكره في الآية الأخيرة بوصفه الإنسان الأول على هذه الأرض ، والذي جعل على عاتقه مسؤولية خلافة الله في الأرض .

الدرجة الثانية : استخلاف قوم أو جماعة بشرية معينة من بين الأقوام أو الجماعات البشرية الأخرى ، ولأن الاستخلاف أمانة إلهية ، فإن القوم المستخلفين في حالة مخالفتهم لمقتضيات حمل هذه الأمانة ، سيتلقون العقاب الإلهي ، وتتحول الخلافة عنهم إلى قوم آخرين كما في قوله تعالى : ( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) [6]،  ومن أمثلة هذا الاستبدال قوله تعالى بشأن قوم نوح : ( فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ) [7].

الدرجة الثالثة : استخلاف قائد رباني لتميزه عن بقية أبناء قومه تكون خلافة الله متوجة فيه ، ومصونة به من خطر الإفساد في الأرض ، وسفك الدماء كما في قوله تعالى : ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله )[8] ، وقوله تعالى: ( ليكون الرسول شهيدا " عليكم ) [9].
وهذه الدرجات الثلاث تمثل بمجموعها مفهوم الإسلام الأساس عن الخلافة، وهو يتلخص بإنابة النوع الإنساني في إعمار الأرض وإصلاحها ولكن بتميز أمة أو قوم يختارون ( مع إمكانية استبدالهم ) للدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، على رأسهم قائد رباني يحكم الناس بالشريعة الإلهية [10].

وعلى هذا الأساس ينطلق مفهوم الحاجة إلى القيادة الإسلامية ، فيجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت وزعيم الأمة، فيكون الدين محروساً بسلطانه، والسلطان جارياً على سنن الدين وأحكامه .

لقد بدأ الافتراق في وجهات النظر السياسية كما تقدم في النزاع بحضرة الرسول الأكرم محمد " صلى الله عليه وآله " ، فاشتغل جملة الاصحاب بتجهيز الرسول الاكرم ، واشتغل آخرون بعقد البيعة[11] وتولية إمام للمسلمين بان اجتمع رهط من المهاجرين وفريق من الأنصار تحت سقيفة بني ساعدة .

وكان الأمر قد تم محاججة بين المهاجرين والأنصار في أيهم يكون بعد الرسول الأكرم فوصلوا بعد طول افتراق الى رأي بأن قالت الانصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر بن الخطاب فقال: يا معشر الانصار ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أمر ابا بكر ان يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر فقالت الانصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ، وعندئذ قام عمر بن الخطاب الى ابي بكر وفض النزاع بان بسط يديه مبايعا ابا بكر على الخلافة ، وكذلك فعل الحاضرون من بعض المهاجرين والانصار[12].

وبهذا انعقدت الامامة ، وهذا هو المذهب الذي ارتضاه اهل السنة في الخلافة وسمي اصحاب السقيفة باهل الحل والعقد ومن هنا تحددت الشورى عندهم بالنخبة ، من المسلمين متمثلة بأهل الحلّ والعقد .

 وقد اختلف العلماء من اهل السنة في عدد من تنعقد به الاِمامة ، فقالت طائفة: لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحل من كلّ بلد ليكون الرضا به عاماً، والتسليم لاِمامته إجماعاً.

 وقالت طائفة أُخرى: أقلُّ من تنعقد به منهم الاِمامة (خمسة) يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الاَربعة ، استدلالاً بأنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثمّ تابعهم الناس فيها .

 وقد ذهب بعضهم الى تجويز أن يعهد الخليفة لمن شاء ليجعله خليفة بعده، فتنعقد الإمامة ، ومن ذلك عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر، ويدخل في ذلك أيضا العهد إلى مجموعة من أهل الحل والعقد ليختاروا واحداً منهم إماماً. وقد استدلوا على ذلك من فعل عمر بن الخطاب عندما عهد بالخلافة إلى ستة[13].

ان امر الشورى الذي يستلزم العدد الغفير من الناس لاجل ان تنعقد الامامة بمشاورتهم لم يكن مطبقا في الحقيقة الا على نحو ضيق جدا مع الاجراء الذي اتخذه عمر بن الخطاب بان يعهد الى ستة يخرجوا من بينهم خليفة للمسلمين ، ومع ابو بكر الذي قام بمبايعته الناس من العوام دون الخاصة من اهل الحل والعقد ، فلم يكن الخيرة من الاصحاب حاضرين في سقيفة بني ساعده وقت المبايعه [14].

 وعلى ذلك لا نجد في مذاهب اهل السنة تطبيقا للشورى التي ذهب اكثرهم اليها في ترسيخ فكرة الخلافة الا مع عمر بن الخطاب عندما حضرته الوفاة ، فتروي المصادر أن عمر بن الخطاب ارتقى المنبر فخطب " فقال: رأيت كأن ديكا نقرني نقرة أو نقرتين وإني لا أراه إلا حضر أجلي وإن قوما يأمروني أن أستخلف وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض وقد جعلتها شورى في عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد ".

وواضح ان الشورى قد انعقدت في هؤلاء الستة ينتخبون فيما بينهم اميرا يكون هو الخليفة بعد عمر ، ومن هنا ترشح على الخلافة عثمان بن عفان بتصويت طلحة وعبد الرحمن بن عوف لصالحه ، وقد امتنع سعد عن التصويت.

 لقد تأسست نظرية الخلافة والإمامة عند أهل السنة على عدم وجود نصوص في تعيين من يخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو في طريقة اختياره وشروط انعقاد البيعة له، وقد ذهبوا للاستدلال بصحة الخلافة بآية الشورى التي لم تأت في القرآن الكريم الا في موضعين ، فالموضع الاول هو في قوله تعالى : " وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " [15]، اما الموضع الآخر فهو في قوله تعالى : " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ   " [16].

 لقد تحدثت الآية الاولى عن الانصار ، فسبب نزولها هو في امتداح الانصار من المؤمنين ، فقد دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته ، فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه ، وَأَقَامُواْ الصلاة ، وأتموا الصلوات الخمس .

 وكانوا قبل الإسلام وقبل مقدم رسول الله صلى الله عليه الهِ وسلم الى المدينة : إذا كان بهم أمر اجتمعوا وتشاوروا ، فأثنى الله عليهم ، بانهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه .

وقد اتفق المفسرون من الفريقين على ان آية الشورى لا تعني الا المشاورة وطلب الرأي ، وقد أتت ألفاظ المفسرين بعمومية تصلح لان تفسر في مواطن كثيرة لا تخص قضية الحكم .

ومن ذلك ما روي:(عن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب ، ولتقتدي به الأمّة ، وهو عامّ للرسول وغيره ، تطييباً لنفوس أصحابه ورفعاً لأقدارهم ، وروى مثله عن قتادة ، والرّبيع ، وابن إسحاق )[17]،  وقال ابن عاشور :( والظاهر أنَّها لا تكون في الأحكام الشرعية لأنّ الأحكام إن كانت بوحي فظاهر ، وإن كانت اجتهادية ، بناء على جواز الاجتهاد للنَّبي صلى الله عليه الهِ وسلم في الأمور الشرعية ، فالاجتهاد إنَّما يستند للأدلَّة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمَّته لا يستشير في اجتهاده ، فكيف تجب الاستشارة على النَّبي صلى الله عليه وسلم مع أنَّه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطأ عليه فإنَّه لا يُقرّ على خطأ باتّفاق العلماء)[18].

وقال الزمخشري في الكشاف: ({ والذين استجابوا لِرَبّهِمْ } نزلت في الأنصار : دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته ، فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه { وَأَقَامُواْ الصلاة } وأتموا الصلوات الخمس . وكانوا قبل الإسلام وقبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة : إذا كان بهم أمر اجتمعوا وتشاوروا ، فأثنى الله عليهم ، أي : لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه . )[19]، وقال الماوردي : ({ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } فيه أربع أوجه :

أحدها : أنهم كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه الهِ وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملواْ عليه فمدحهم الله تعالى به ، قاله النقاش .

الثاني : يعني أنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا على اتفاق كلمتهم . قال الحسن : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم .

الثالث : هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له ، قاله الضحاك .

الرابع : أنهم يتشاورون فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخير دون بعض . ) [20]،وقال ابن كثير في تفسيرها : (أي: لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا  فيه، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها) [21]

وكان كذلك في الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي[22] ومثله في تفسير البغوي اذ قال: (يتشاورون فيما يبدو لهم ولا يعجلون )[23] ،  وقال صاحب أنوار التنزيل وأسرار التأويل: (نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا له . { وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } ذو شورى بينهم لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه ، وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم في الأمور ، وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور .) [24] .

وجاء في جامع البيان في تأويل القرآن  لمحمد بن جرير الطبري في تفسير آية الشورى ما نصه : (حدثنا سوَّار بن عبد الله العنبري قال، قال سفيان بن عيينة في قوله:"وشاورهم في الأمر"، قال: هي للمؤمنين، أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألُّفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنة الشيطان  وتعريفًا منه أمته مأتى الأمور التي تحزُبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله.

 فأما النبي صلى الله عليه الهِ وسلم، فإن الله كان يعرِّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صوابَ ذلك. وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك، على تصادُقٍ وتآخ للحق،  وإرادةِ )[25]، ومن نحو ذلك ما قاله الطنطاوي : ({ وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أى : شأنهم أنهم إذا حدث بينهم أمر هام يحتاج إلى المراجعة والمناقشة ، تجمعوا وتشاوروا فيما هو أنفع وأصلح)[26] .

وقال القرطبي : (قال مقاتل و قتادة و الربيع : كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم ، فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر : فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم وأطيب لنفوسهم فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم وقال آخرون : ذلك فيما لم يأته فيه وحي روي ذلك عن الحسن البصري و الضحاك قالا : ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل ولتقتدي به أمته من بعده )[27]، وقال ايضا : (أي يتشاورون في الأمور والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى ونحوه فكانت الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه و سلم إليهم إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه ثم عملوا عليه فمدحهم الله تعالى به قاله النقاش وقال الحسن : أي إنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا بإتفاق كلمتهم)[28].

والآية الشريفة متلازمة مع معنى سياقي ارتبط بالآيات التي قبلها ، ذلك ان المعنى العام اراد توصيف صفاة عدة في المؤمنين تجعل منه معيارا يكون به متمازجا مع الخير الذي اراده الله للناس ليؤهلهم لعيش ايام الآخرة لان صلاح اخراهم بصلاح دنياهم وما خلا ذلك فهو من المعاني الخسيسة التي يحذر النص القرآني ان يكون الانسان متصفا بها .

 ومن جملة المعاني التي ارادها الله للانسان الخير هو المشاورة ، وطلب الراي ، قال الفخر الرازي : (وأما قوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } فقيل كان إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم ، أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه ، وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم ، والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ، ومعنى قوله { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أي ذو شورى )[29].وهو ما اشار اليه سيد قطب بقوله : (وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها . ومع أن هذه الآيات مكية ، نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة ، فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة : { وأمرهم شورى بينهم } . . مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاماً سياسياً للدولة ، فهو طابع أساسي للجماعة كلها ، يقوم عليه أمرها كجماعة ، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة ، بوصفها إفرازاً طبيعيا للجماعة )[30].

 وقد طابقت تفاسير هذا الجمع من العلماء لما ذهبوا اليه من كون الشورى عام وليس خاص بالخلافة ونحوها تفسيرهم الآية الاخرى وهي التي وردت في سورة آل عمران فقد فسروا انها قد اتت في سياق الحرب والقتال .

اذ امر الله تعالى النبي عليه وآله الصلاة والسلام، بان يشاور المؤمنين في الحروب خاصة ، لما في ذلك من تطييب خواطرهم ، واستجلاب مودّتهم ، ورفعا لأقدارهم وتألفا على دينهم وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه ، وهذا ما رواه قتادة و الربيع و ابن إسحاق و الشافعي وفي هذا المعنى قال الآلوسي : ({ وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أي ذو شورى ومواجهة في الآراء بينهم بناء على أن الشورى مصدر كالبشرى فلا يصح الأخبار لأن الأمر متشاور فيه لا مشاورة إلا إذا قصد المبالغة ، وأورد أنه يقال من غير تأويل شأني الكرم والأمر هنا بمعنى الشأن ، نعم إذا حمل على القضايا المتشاور فيها احتاج إلى التأويل أو قصد المبالغة ، وقيل : أن إضافة المصدر للمعوم فلا يصح الأخبار إلا بالتأويل ورد بأن المراد أمرهم فيما يتشاور فيه لا جميع أمروهم وفيه نظر .

 وقال الراغب : المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم : شرت العسل وأشرته استخرجته والشورى الأمر الذي يتشاور فيه انتهى . والمشهور كونه مصدراً ، وجيء بالجملة اسمية مع أن المعطوف عليه جملة فعلية للدلالة على أن التشاور كان حالهم المستمرة قبل الإسلام وبعده ، وفي الآية مدح للتشاور لا سيما على القول بأن فيها الأخبار بالمصدر .

 وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هدى لأرشد الأمور » ، وأخرج عبد بن حميد . والبخاري في الأدب . وابن المنذر عن الحسن قال : ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم ثم تلا { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } ، وقد كانت الشورى بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب ، وكذا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام ، وكانت بينهم أيضاً في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك ، والمراد بالأحكام ما لم يكن لهم فيه نص شرعي وإلا فالشورى لا معنى لها وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله عز وجل إلى آراء الرجال والله سبحانه هو الحكيم الخبير....)[31].

وفي قوله تعالى: " فإذا عزمت فتوكل على الله " قال قتادة : أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله لا على مشاورتهم والعزم هو الأمر المروي المنقح وليس ركوب الرأي دون روية عزما إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب ، وبهذا المعنى قال الحسن وسفيان بن عيينة : قد علم الله أنه ما بالرسول " ص " إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده ، وقد كان الرسول شاورهم في وقعة أحد فأخطئوا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك المشورة، قال الكلبي وكثير من العلماء : أن اللام في لفظ { الأمر } ليس للاستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي بالاتفاق ، فهو إذن لمعهود سابق وليس ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب في قصة أحد كما اسلفنا [32].

ويروى عن علي بن أبي طالب ، انه: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العَزْم؟ فقال : "مُشَاوَرَةُ أهْلِ الرَّأْي ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ" وفي هذا المعنى ذكر البيهقي بقوله : (وأخبرنا أبو بكر ، وأبو زكريا قالا : حدثنا أبو العباس ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا ابن عيينة ، عن الزهري قال : قال أبو هريرة : « ما رأيت أحدا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم » قال الشافعي : وقال الله جل وعز : وأمرهم شورى بينهم ، قال الشافعي في رواية أبي عبد الله : قال الحسن : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم عن مشاورتهم لغنيا ، ولكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده )[33].

  ثم إن العلماء اتفقوا على أن كل ما نزل به وحي لم يجز للرسول أن يشاور الأمة فيه ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس ، قال العلماء : وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا وقلما يكون ذلك إلا في عاقل ، وقال الحسن : ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه وقال سفيان الثوري : ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ومن يخش الله تعالى[34] .

 ومن هنا يجمع اهل السنة على حاكمية الخلافة التي تنعقد باهل الحل والعقد كما تقدم وبأقوال الصحابة وأفعالهم في تشريع القوانين ووضع النظريات التي تختص بقضية الخلافة ، وهم يجمعون بأن الإمامة الحقة تمثلت بخلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، على حسب ترتيب أفضليتهم عندهم، وسموهم بالخلفاء الراشدين.

وبناءا على مشروعية اهل الحل والعقد من خلال آية الشورى اعتبروا أيضاً شرعية الخلفاء الذين جاءوا من بعد الخلفاء الراشدين ، كالخلفاء الأمويين، والعباسيين، والعثمانيين .

وبناءا على ما مر تكون الامامة عندهم ليست من أصول الاعتقاد بحيث يفضي النظر فيها إلى قطع ويقين بالتعين ولكن الخطر على من يخطي فيها يزيد على الخطر على من يجهل أصلها والتعسف الصادر عن الأهواء المضلة مانع من الإنصاف فيها.[35]

أما القول في تعيين الإمام هل هو ثابت بالنص أم بالإجماع فالقائلون اختلفوا في أن النص ورد على شخص بعينه أم ورد بذكر صفته فالقائلون بالإجماع اختلفوا في أن إجماع الأمة عن بكرة أبيهم شرط في ثبوت الإمامة أم يكتفى بجماعة من أهل الحل والعقد .

: (قال أهل السنة القائلون بالإجماع الدليل على عدم النص على إمام بعينه هو أنه لو ورد نص على إمام بعينه لكانت الأمة بأسرهم مكلفين بطاعته ولا سبيل لهم إلى العلم بعينه بأدلة العقول والخبر لو كان تواتراً لكان كل مكلف يجد من نفسه العلم بوجوب الطاعة له وإلا لزمه ديناً كما لزمه الصلوات الخمس ديناً ولما جازوا إلى غيره بيعة وإجماع).[36]

 وقد : (قالت النجدات من الخوارج وجماعة من القدرية مثل أبي بكر الأصم وهشام الفوطي أن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوباً لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب بل هي مبنية على معاملات الناس فإن تعادلوا وتعاونوا على البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام ومتابعته فإن كل واحد من المجتهدين مثل صاحبه في الدين والإسلام والعلم والاجتهاد والناس كأسنان المشط والناس كابل ماية لا تجد فيها راحلة فمن أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله).[37]

وقد : (قالت الشيعة الإمامة واجبة في الدين عقلاً وشرعاً كما أن النبوة واجبة في الفطرة عقلاً وسمعاً.

أما وجوب الإمامة عقلاً أن احتياج الناس إلى إمام واجب الطاعة يحفظ أحكام الشرع عليهم ويحملهم على مراعاة حدود الدين كاحتياج الناس إلى نبي مرسل يشرع لهم الأحكام ويبين لهم الحلال والحرام واحتياج الخلق إلى استبقاء الشرع كاحتياجهم إلى تمهيد الشرع وإذا كان الأول واجباً إما لطفاً من الله تعالى وإما حكمة عقلية واجبة كان الثاني واجباً.

وأما السمع فإن الله تعالى أمرنا بمتابعة أولي الأمر وطاعتهم فقال " أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم " فإذا لم يكن إمام واجب الطاعة كيف يلزمنا ذلك التكليف وقال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " فلو لم يكن في الأمة صادقون واجبوا الطاعة كيف وجب علينا أن نكون معهم ويستحيل أن يكلف إنسان كن مع فلان ولا فلان في العالم وإذا كان العالم لا يخلو عن صادق مطلق فقد تحققت عصمته فإنا لا نعني بالعصمة إلا الصدق في جميع الأقوال ومن كان صادقاً في جميع الأقوال كان صالحاً في جميع الأحوال).[38]

لكن اهل السنة يرون ان : (السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين - برهم وفاجرهم - ما لم يأمروا بمعصية الله ، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله ، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به ، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة ، وسمي أمير المؤمنين ، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين ).[39]

وعلى وفق ذلك لا تكون العصمة شرطا في الخليفة الذي يكون قيما على الدين وعلى رقاب المسلمين ولعمري كيف يؤمن على الدين من خلافة لا تكون العصمة شرطا فيها وكيف يكون الخليفة صاحب الامر المطاع والامانة الثقيلة فاجرا فضلا عن البر ، او ذاك الذي اخذها بحد السيف عدوانا وظلما فيكون خليفة الخارج عنه خارجا عن الملة ومحاربا الله ورسوله ؟

ان الرائي في ما مر يجد بان السياق القرآني لآيتي الشورى لا يقتضي في دلالته السياقية الصريحة شيئا يخص الحكومة او السياسة او الخلافة ، فلم يكن سبب نزول قوله تعالى " : وامرهم شورى بينهم " بالذي يتحقق معه رجحان الدلالة على شكل نظام الحكم الاسلامي بعد وفاة النبي الاكرم ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فصراحة قول الله تعالى وبما دلت عليه كتب التفسير التي مر استعراضها توضح ان سبب نزول النص كان في وصف حالة خاصة هي أن الرسول صلى الله عليه وآله قد شاورهم في وقعة أحد فأخطئوا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك المشورة .

ومن ثم ان اقوال النبي وافعاله هي من السنة في حق الامة ، واجراء النبي الاكرم قد اتى من باب آخر هو تنفيذ لارادة الله ، بالمشاورة لكي يواسي المؤمنين في وقت الحرب ولكي يكون سنة في حق الامة مشاورة ولاة الامر من هم اهل للمشورة .

والآية جميعا في سياقها القرآني قد جاءت في وقت استثنائي هو وقت الحرب ، ومعلوم ان الحرب غير السلم فالاصل السلم وليس الحرب وعلى هذا الاساس يكون الجو العام للآية الشريفة خاص بمسائل الحرب والجهاد فهو من هذا الجانب ليس الا مشاورة اصحاب الراي السديد في الحرب .

 وجو الآية فيه من المواساة النفسية ما لايخفى ، فقد اتت تامر النبي الاعظم بطلب الراي بالمشاورة مع العلم ان النبي لا ينطق عن الهوى قولا وافعاله مسددة من السماء ، ومن هنا تكون من السنة المؤكدة كل اقوال وافعال وتقريرات النبي صلى الله عليه وآله ، وانما امر الله تعالى بالمشاورة لاجل غاية نفسية تتعزز فيها ثقة المؤمنين بانفسهم ولا يكتفون بالسمع والطاعة بل يتشاركون في امر الحرب واعداد الخطط لان ذلك اطيب لانفسهم كما قال المفسرون ثم ان المشورة تكون من القائد الى الرعية في امور بعينها ولا معنى بان يتم انتخاب القائد بعقد المشورة عليه فينقلب معنى النص القرآني الى الضد من ذلك .

 وقد شاورالنبي الاكرم المؤمنون في غزوة الخندق اذ اشار عليه سلمان الفارسي المحمدي رضوان الله عليه بحفر الخندق ، ولعل التفسير من قبل غير المعصوم او من العوام من الناس قد عمم الامر بالشورى حتى جعله في اخطر قضية مرت بها الامة وهي قضية الحكومة .

 وليس مما يعقل ان يتوسع بالحكم الخاص ويحول الى حكم عام ، وربما يعقل ان تكون المشورة سنة في الاحوال الاجتماعية والاقتصادية بعد العسكرية ، لكن لا يعقل ان يكون في الامر الخطير الذي به فساد الامة او صلاحها وهو امر قيادة الامة وامامة المسلمين .

 ثم كيف تنعقد الامامة شورى واحد منافذ انعقادها هو القهر بالسيف ؟ ، وكيف هي شورى براي اهل الحل والعقد ثم لا يكون الشرط فيها تولية البار بل يكون الفاجر وليا على المسلمين وهو القيم على تطبيق الشريعة على حد سواء مع تولية البار ؟ ولعمري كيف يحقق العدل الالهي من  هو بعيد اصلا عن الله تعالى ولم يحقق عدلا في نفسه وقالوا قديما ان فاقد الشيء لا يعطيه .

ونعلم وبناءا على اقوال المفسرين ان الشورى تكون من الاعلى الى الادنى فالخليفة يشاور الرعية وليس للرعية ان تشير على الخليفة وتملك القرار الملزم على الخليفة بان يطيع راي الشعب من اهل الحل والعقد بل ان العزيمة والتوكل باتخاذ القرار مرتبط بقناعة الحاكم وما يملك المحكوم الا مشاركة الراي والاستئناس بالفكرة ولا يستدعي هذا المعنى ان يكون من حق الناس هنا انتخاب الحاكم وكما يفيده النص المقدس .

ويعضد توجيه الشورى بانها في كل شيء الا الحكم ما ضمته كتب التفسير لدى العلماء المسلمين من غير ابناء السنة او الجماعه ، فقد فسرت الشورى في هذا الموضع بقولهم : (....قيل في وجه مشاورة النبي صلى الله عليه وآله إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد ثلاثة أقوال:

أحدها - قال قتادة، والربيع، وابن اسحاق أن ذلك على وجه التطييب لنفوسهم، والتأليف لهم، والرفع من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله: (ويرجع إلى رأيه).

والثاني - قال سفيان بن عيينه: وجه ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة ولا يرونها منزلة نقيصة كما مدحوا بأن أمرهم شورى بينهم.

الثالث قال الحسن، والضحاك: انه للامرين، لاجلال الصحابة واقتداء الامة به في ذلك.

وأجاز أبوعلي الجبائي: أن يستعين برأيهم في بعض أمور الدنيا.

وقال قوم: وجه ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح في مشورته من الغاش النية)[40].

فـ :(هذه الآية وإن كانت تتضمن سلسلة من التعاليم الكلية الموجهة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتشتمل من حيث المحتوى على برامج كلية وأساسية، ولكنها من حيث النزول ترتبط بواقعة «أُحد» لأنه بعد رجوع المسلمين من «أُحد» أحاط الأشخاص الذين فروا من المعركة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهروا له الندامة من فعلتهم وموقفهم، وطلبوا منه العفو.. فأصدر الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره بأن يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئهم ويستقبل المخطئين التائبين منهم بصدر رحب )[41]، وعلى هذا الرأي اتت جملة كبيرة من تفسيرات العلماء المسلمين لآية الشورى في هذا المظن[42].

اما  الآية الاخرى وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون ) ، فقد اتت في امتداح الانصار من المسلمين وقد مر ان جل علماء التفسير من ابناء السنة قد اوضحوا ان الآية قد اشتملت على جو عام وخاص ، فالخاص هو امتداح الانصار وهو مناسبة نزول النص اما العام فهو سرد الصفات التي يجب ان تكون في المؤمنين عامة ، فامرهم شورى بينهم ، هو احد ما يجب ان يتصف به المؤمنون عامهم وخاصهم ، قال الشيخ الطوسي : ((وامرهم شورى بينهم) أى لا ينفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم، لانه قيل: ما تشاور قوم إلا وفقوا لاحسن ما يحضرهم)[43]، وقال ابن كثير : (لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها)[44].

 ان فهم النص هنا لا يحتمل الا مشاركة الناس عقولهم في حوادث الامور الدنيوية والا فان الامور العبادية او المعاملية التي اتى بها نص صريح من الله تعالى فلا يمكن معها المشورة على أي حال كما مر .

:( وانطلاقاً من خصوصية النص القرآني ، فإن الخطاب فيه يبتغي الإقناع ويهدف الى صياغة واقع جديد ؛ :"لان الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الامة باسرها فإصلاح كفارها بدعوتهم الى الايمان ، واصلاح المؤمنين بتقويم اخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم الى طرق النجاح وتزكية نفوسهم"[45] ، وقد أعطي المخاطب في القرآن الكريم أهمية خاصة لإكساب النص دلالة متفاعلة ، ذلك ان شكل الاتصال بالناس على اختلاف مستوياتهم ، وتحقيق تفاعلهم مع المعطيات الجديدة ، يتطلب استراتيجية خاصة يتحول بموجبها الخطاب الى علم يحمل دلالات مزدوجة[46]، ولعل الاسلوبية الحديثة بحسب أحدث نظريات النص تتمثل بكون الاستعمال الخاص للغة يتأتى بإخراج طاقاتها التعبيرية من عالمها الافتراضي إلى حيّز الوجود اللغوي، وترى " أن التأثير الأسلوبي يتلاشى حيث يكون الترتيب عادياً"[47]؛ ذلك أنّنا قد نجد عناصر لغوية عادية، وهي ذات أهمية تعبيرية خاصة، وفيها قيم جمالية بالغة التأثير ، وإنّ دراسة الأسلوب الجاري على النسق المألوف قد يُبهرنا أكثر مما يبهرنا النوع الأول القائم على دراسة الاسلوب النمطي الذي ليس فيه صبغة انزياح ادبي او فني للتراكيب النحوية والاستعمالات اللغوية[48]، فلعلَّ ما يبدو عادياً من التراكيب يتضمن نتوءاً أسلوبياً، و"ربمّا تتضمن بعض أشكال اللغة العادية مدلولات ثرية تعجز أشكال أخرى عن تحقيقها"[49].

إنّ دور التراكيب العادية لا يقلّ عن دور الأنساق القائمة على الانزياح في الكشف عن الإشارت النفسية والقدرة على نقل الأحاسيس، ولا سيّما إذا كان النص الناقل هو الكلام الإلهي الذي يحكي أقوال الناس بأمانة وصدق، بما يرافقها من خواطر النفوس وخلجات القلوب؛ لأنّ ثمّة ارتباطاً وثيقاً بين هيأة الكلام وما يعتمل في النفس من مشاعر وأفكار، والعبارة الصادقة هي ما تحمل أنفاس أصحابها.

ويرى علماء العربية أنّ الجملة الاسمية تفيد الثبات والدوام، والجملة الفعلية تفيد التجدد والحدوث، ولا يخلو مراعاة هذا النظم أحياناً من الإشارة إلى قضايا نفسية في القرآن [50] ، وهو الذي يمكن ان نتحصله من خلال تحليل[51] قوله تعالى ": وامرهم شورى بينهم " ، وقوله تعالى :" وشاورهم في الامر " على وفق مقتضيات علم اللغة النصي والاسلوبية الحديثة[52] في دراسة النصوص اللغوية اذ عند تحليل النصين الكريمين يظهر الآتي :

لم توجد قرينة او مجموعة ملازمات لغوية تشير بصراحة العبارة ان المراد من الشورى هو قضية الخلافة والحكم .

ان القرائن في النص الاول هي قرائن سلوكية يستعرض بها النص ما يجب ان يكون عليه المؤمنون من صفاة تليق بعباد الله المخلصين ومن جملتها المشاورة مع الآخرين في امور الحياة المختلفة .

أتت المشورة في سياق تقرير حالة خاصة وهم الانصار من المؤمنين ، ومناسبة النص تقتضي نسقا تاريخيا في عرض صفات هؤلاء القوم فابتدأ القرآن بالقول انهم استجابوا لربهم ، ثم أردف انهم أقاموا الصلاة ، ثم قال :انهم آتوا الزكاة ، ومن ثم قال : ان امرهم شورى بينهم .

 ويحكم تحليل الخطاب على وفق ما مر ان المراد هو تعداد احوال خاصة ضربت مثلا يقتدي به العامة لكن ذلك لا يخرج كون المناسبة للنص تتركز على امور عبادية وليس معاملية وهذا يستدعي ان تكون الشورى في جنب القضايا العقائدية وليس المعاملات بين الناس فليست هي بيع او شراء او ما شاكل بل هي سلوك فردي او جماعي محمود فاعله .

القرائن في النص الثاني تجعل من الخطاب القرآني خاصا وليس عاما لجميع الناس ، فقوله " ولو كنت فظا غليظ القلب " ملازمة لغوية قيدت دلالة النص في ان تكون المشورة خاصة للنبي وفي احوال خاصة والهدف منها رفع معنويات المسلمين في حالة الحرب فقط وهو نوع من التطمين النفسي وشكل من العلاقة التي ينبغي ان يكون عليها القائد مع جنده والحاكم مع رعيته ورب العمل مع عامليه وهكذا.

ان التناسب الذي نتحصله من قول الله تعالى فاذا عزمت فتوكل على الله ، يثبت ان الشورى هنا هي مشاركة الناس آراءهم  على ان تكون عزيمة الامر وانفاذه خاصة بالنبي عليه وآله افضل الصلاة والسلام وهنا لا دلالة على ان الشورى يجب ان تكون عامة الغرض منها اثبات امر الخلافة فالمشاور هو النبي وهو ذو مرتبة اعلى من المشاور معهم واصحاب المشورة هم الادنى من مرتبة النبي وامر المشورة خاص بالقتال وليس امرا  آخر .

ان الضمير هم في "امرهم شورى بينهم " يعود الى معهود سابق وهم الانصار من المؤمنين واراد الله مدحهم ليكونوا مثلا يحتذى واسوة في المجتمعات الاسلامية .

ان الضمير هم في وشاورهم بالامر ، يعود الى القوم من المؤمنين بمعية النبي صلى الله عليه وآله ليحقق بذلك علاقة تفاعلية بين القائد والجيش وهو نوع من التطمين النفسي الذي يستلزمه جو المعركة .

ان القرينة التي نتحصلها بقوله تعالى : توكل على الله ، تستلزم تنسيقا وترتيبا في امر المشورة بالذي يحقق الغرض بالفقرة الخامسة ، وكان المفسرون قد اتفقوا على ان النبي الاعظم لم يكن محتاجا لمشورة الناس ولكن القرآن امره بالمشورة لانه قد شاورهم يوم احد فخذلوا النبي وانكسر الجيش ، والمشورة هنا ما كانت الا تطمينا للمؤمنين ورفع معنوياتهم وهو اجراء نفسي اكثر من كونه اجراءا عمليا .

والسؤال هنا : كيف صاغ لبعض المسلمين الصاق آيتي المشورة بنظرية الخلافة ؟ وهل يجوز على الناس تفسير النص على وفق هذا المعتقد ، واين هي حدود فهم النص وقد قيل قديما ان القرآن حمال وجوه ومعاني .

ان الذي يلحظ تفاسير الجمع الكبير من علماء التفسير من كافة علماء المسلمين التي مر استعراض نماذج منها يرى بعين البصر والبصيرة ان الآيتين لا تحتملان غير معنى خاص وهو : تأسيس نوع من العلاقة التفاعلية بين ابناء المجتمع انفسهم وبين الناس والسلطان ، وذلك في جميع امور الحياة ما خلا الامور التي اتت بنص مقدس من الله تعالى .

 والصاق معنى الآيتين بنظرية الخلافة هو تحميل النصين ما لا يحتملانه فلا سبب النزول يوحي بذلك ولا مناسبة النص المقدس  كذلك توحي بهذا المعنى .

وان اقصى ما يحتمله النص من التفسير او التأويل هو محصور في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وربما السياسية بين الحاكم والمحكوم وبين الناس رئيسهم ومرؤوسهم في كافة امور المجتمع .

 فالعلاقة بين المشير والمشار محكومة بما فعله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الناس في غزوة الخندق وبما امتدح الله به الانصار لفعلهم من المشاورة في امور الحياة العامة ، اما ان تكون المشاورة اصلا للقيادة وهي الامامة الكبرى التي تستحيل على غير الصالحين فهو امر فيه نظر ..

ولعل الناس من غير المعصومين قد وجدوا في امر المشورة الذي يتحصل من خلال تفسيرهم قوله تعالى آيتي الشورى الاساس الشرعي لاضفاء الشرعية على حكومات الخلفاء الراشد


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

محاضرات

أختر من القائمة أعلى يسار الفيديو
......المزيد

نشاطات

أختر من القائمة أعلى يسار الفيديو
......المزيد

المحاضرة الثالثة

المحاضرة الثالثة لدورة (تعليم اللغة الفارسية ) في مقر مؤسسة النخب الأكاديمية
......المزيد

إلى الشهيد النمر في عرسه الأعظم

د إياد الأرناؤوطي قُلْ للنـجومِ الشامخــــــــــاتِ: تبتّـــــــــــلي وقَـــعي سُجودًا عند بابيَ، وانزلــــي وتلبّســـــــي نـحـــــــــري الذبيــــحَ قلادةً حســــناءَ، من زهرِ الجنان،
......المزيد

شاهد بالفيديو..الشهيد الشيخ النمر: لانهاب الموت ونعشق الشهادة

نشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو كليب لأجمل ما قاله الشهيد الشيخ النمر في خطاباته.
......المزيد

السعودية والشيخ النمر.. رمتني بدائها وانسلت!

شخصياً لا أستغرب من أي وصف أو تعبير يطلقه الاعلام السعودي (والخليجي الموالي له) على اعدائه أو منافسيه.. لأنه اعلام
......المزيد