الانسان تعريف ناقص....

  • نشره :

  • 24 - 02 - 2014
  • 10323
اعتبرت نظرية الداروينية التى خرجت علينا فى بدايات القرن التاسع عشر أن الإنسان ليس بأكثرمن موجود منتمى إلى عالم الطبيعة الذى تحكمه قوانين وقواعد المادة فى تصور مساوق للمادة وغير متجاوز لها،

 فالأصل فى الحركة هو الصراع بين الموجودات الذى لا يقوده سوى الرغبة فى البقاء والذى لن ينجح

فيه سوى من يملك مقومات القوة المادية فى فرض وجوده على الآخر أو فى التكيف مع وجود الآخر،

وأن الوجود الإنسانى نفسه هو نتاج لمراحل التطور من كائنات أدنى لكائنات أرقى فى خضم رحلة الصراع المهولة ليتربع الإنسان على رأس قائمة الموجودات والتى لن تتوقف عنده، وهو التصور الذى يحيل القاعدة فى حياة الإنسان إلى ضرورة الصراع وخوض الحروب المستمر مع غيره من الكائنات ولاحقاً مع بنى جنسه أنفسهم من أجل فرض وجوده بالقوة، أو كما يقول هوبز توماس ، أن"الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وأن "الواقع ما هو إلا حلبة صراع يخوضها الجميع ضد الجميع"

والمتأمل فى النظرية سيكتشف كم المتناقضات التى تحملها بين دفتيها بدون أى تفسير منطقى أو عقلانى، فحيث أن النظرية قد اختزلت كل التبريرات الحاكمة للوجود الإنسانى فى قضية الاختيار "الطبيعى" وجعلت منها هى العلة أو الغائية التى وجد من أجلها الانسان ألا وهى الإرادة فى البقاء والاتجاه نحو الارتقاء فى القوة المادية، وهى بذلك قد نسبت تلك الإرادة والرغبة إلى الطبيعة نفسها فى حالة جبرية لا تملك أمامها الكائنات دفعًا، وفى صورة ميكانيكية آلية لا تختلف عن قوانين الجاذبية والحركة الفيزيائية، متجاوزة بذلك أن صفة الإرادة والرغبة لا تتمثل سوى فى وجود ذي صفة عاقلة لا بد أن يملك حرية الاختيار بين أن يفعل وألا يفعل حتى يمكن أن تتشكل له رغبة نحو إدراك التكامل "التطور" ثم إرادة نحو الفعل، وهو بهذا اللحاظ سواء أراد الإصرار على فرضيته فى وجود الغاية العاقلة، أو تنازل عنها فى وضع تصور اتفاقى عبثى لا تحكمه قواعد ولا قوانين، فعليه أن يقدم تفسيرًا مبررًا لنشوء القوة العاقلة المعقدة لدى الإنسان من خلال أطروحته التى تبنت فكرة التطور المادى وفقط والمتجاوزة للجانب النفسى أو المجرد فى الذات الانسانية، والمنكرة لوجود المخطط الإلهى لنشأة الكون. بل ربما يمكن القول أن مجرد الحاجة إلى التفسير ووضع أسباب وقوانين حاكمة لهذا التطور هى من صفات القوى العاقلة الباحثة عن العلل والأسباب فى ذاتها، فالحيوان لا يبحث عن العلة ولا يفكر فى سبب لوجوده إنما هو يعيش هذا الوجود وفقط يحكمه من خلال ذلك غرائز الجوع والعطش والجنس والبقاء دون ان يحاول أن يسأل عن سبب للوجود !! على العكس من الإنسان الذى هو كما يقول الدكتور الطيب بو عزة “ ليس الإنسان مجرد كائن يعيش وجوده، بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود، بل حتى على مستواه الفردى يحرص على أن يجعل لوجوده معنى ”

إن النظرية التى تدعى أن الغريزة والفطرة الحاكمة لسلوك الحيوان والتى هو مجبول عليها هى من باب الإرادة وصنف الرغبة، عليها أن تقدم تفسيرًا لماذا لا تملك الحيوانات إلا أن تكون كما هى، فلا الطير يملك ألا يهاجر إلى الأماكن الأكثر دفئًا فى الشتاء ولا النمل يملك إلا أن يقوم على تخزين قوته فى فصل الصيف، ولا النحل يملك أن يعمل بمهمة أخرى غير صناعة العسل، فى تلك الحركة التى يصح هنا وصفها بالميكانيكية والآلية، فى حين أن الإنسان امتلك القدرة على حماية نفسه من البرد فى فصل الشتاء دون الحاجة إلى التنقل، كما استطاع صياغة الآليات التى تمكنه من الحصول على طعامه فى كل الأوقات دون الحاجة الى تخزين، ومن القدرة على اختيار العمل الذى يرغب فى أدائه.وهو نفس المعنى الذى صاغه الدكتور المسيرى فى قوله ”الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يرتفع على ذاته أو يهوى دونها، على عكس الملائكة والحيوانات، فالملائكة لا تملك إلا أن تكون ملائكة والحيوانات هي الأخرى لا تملك إلا أن تكون حيوانات، أما الإنسان فقادر أن يرتفع إلى النجوم أو أن يغوص في الوحل”

كما أن نفس النظرية التى اعتنقت فكرة أن البقاء للأقوى وبالتالى فالفناء هو مصير الأضعف، وأن نشأة الإنسان – أكثر الكائنات رقيًا حتى الآن – كانت نتيجة عمليات التطور من ذلك الكائن الحقير وحيد الخلية، هى التى قد فشلت فى تقديم تفسير مقنع عن سبب استمرار وجود الكائنات الأقل تطورًا والأضعف قوة إلى جانب الإنسان حتى الآن، فلم تنتفِ الكائنات وحيدة الخلية من الوجود، بل الأدعى أن تكون قدرتها على التكيف والبقاء حتى الآن هى أولى أسباب دحض النظرية من أساسها حيث أن عمرها بذلك قد يفوق عمر الإنسان فى الوجود.

يمكن القول بأن الداروينية قد خرجت بمفهوم فلسفى لتعريف الانسان بأنه: حيوان، وفقط. ذلك التعريف الذى لم يضف على الإنسان من الصفات والمميزات أكثر من كونه حيوانًا لا تسيّر حركته وسلوكياته وأفعاله سوى نفس القوانين التى تحكم عالم الحيوان، وفى مقدمتها قانون غريزة البقاء والحركة من أجل إشباع الشهوات المادية والجسدية فقط،وهو التعريف الناقص والمنتقص لكثير من الصفات الإنسانية التى لخصها الحكماء والفلاسفة الإلهيون فى كونه (حيوان ناطق) فى إشارة إلى قوة العقل المتجاوزة للمادة وأحكامها، وهو التعريف الذى أوفى الانسان حقه فلم يخرجه من جنس الحيوان المشترك معه فى العديد من الغرائز المادية، بل أضاف إليه ما يميزه عن بنى جنسه ليتحول إلى النوع الإنسانى الأكثر رقيًا والذى يملك من القوة العاقلة المجردة ما يحيله إلى إدراك أسباب عجزه فيسعى إلى جبرها، وما يمكنه من معرفة أسباب التكامل فيسعى إلى تحصيلها فى دورة تبدأ بالمعرفة والإدراك أولاً ثم الإرادة فالقدرة لتنتهى بالفعل المختار، فيصبح هناك محلاً للتفسيرات القيمية والدواعى الأخلاقية التى تتحكم فى السلوك الإنسانى أكبر بكثير من مجرد الرغبة العمياء فى البقاء 


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

الاميبا اكلة الدماغ.

الأميبا آكلة الدماغ هي أحد الطفيليات النادرة التي تدخل إلى المخ عن طريق الأنف وتستهلك خلاياهوقد أصيبت بها فتاة ذات
......المزيد

في نقد إيديولوجيا الأجيال الميتافيزيقية* في الخطاب الفلسفي/والثقافي أو إشكالية استرداد الحق الابستمولوجي المهدور

- قراءة نقدية في الحوار المعرفي مع الأستاذ د.حسن ناظم اعتقد أن الأستاذ الدكتور حسن ناظم، قد سلطّ الضوء في
......المزيد

وجود عشوائى-نحو فهم للوجود والحياة والإنسان .

- نحن نتصور ونتوهم بأن هناك نظام ما يحكم الوجود ليرتبه ويقدره ويغمره بحكمته وتدبيره حيث كل الأمور تحت السيطرة
......المزيد

أكرام الضيف والتطور الحضاري

من الصفات الثابتة عند العرب في قديم الزمان وحاضره ، اكرام الضيف والقيام بقضاء حاجته قدر الامكان ، وان كلفهم
......المزيد

فلسفة الضحك

يسير الضحك مع البهجة جنبا إلى جنب، يحاول الفرد الإنساني من خلال ابتسامته أو قهقهته التعبير عن مقتضاه، و يعبرُ
......المزيد

سوسيولوجيا التصوف الشعبي المغربي:نظرات في قضايا المدنس

يعتبر التصوف الشعبي في المغرب مجالا خصبا للدراسة والتحليل رغم ما كتب وألف عنه،وهو رقعة شاسعة لا يمكن لمها بشكل
......المزيد

فـن الـتـعـامـل مـع ذوي الـطـبـاع الـصـعـبـة

1- العدواني إن الشخص العدواني دائمًا يجعل سلاحه سلاح تحدٍّ وتصويب وغضب، وهذا هو ذروة الضغط والسلوك العدواني.
......المزيد

تجربة علمية لتحديد قوة الرياح

إكتشف الإنسان طاقة الرياح منذ زمن بعيد ، فقد استفاد من هذه الطاقة في تسيير السفن و المراكب في البحار
......المزيد