روايات نهج البلاغة في ضوء علم الدلالة(الجزء الأول)

  • 21 - 06 - 2021
  • 13806
توطئة نهج البلاغة فيض من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) ورسائله ووصاياه وحكمه مما قُدّر للرضي (ت 406هـ) أن يجمعه ، وقد صرح الرضيّ بأن ما جمعه بعض من كلام الإمام (عليه السلام)، فقال :

(( ولا أدعي - مع ذلك – أنّي أحيط بأقطار جميع كلامه (عليه السلام) حتى لا يشذّ عنّي شاذّ ولا يندّ نادّ بل لا أبعد أن يكون القاصر عنّي فوق الواقع إلي والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي، وما عليّ إلا بذل الجهد وبلاغ الوسع ..))(1) . ثُمَّ  سمّى الرضيّ ما جمعه بنهج البلاغة وبين وجه التسمية بأن نهج البلاغة (( يفتح للناظر فيه أبوابها ويقرب عليه طِلابها))(2) . وقد قسم الرضيّ كتابه على ثلاثة أبواب بعد أن رأى (( كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة: أولها الخطب والأوامر. وثانيها الكتب والرسائل. وثالثها الحكم والمواعظ ))(3) .

  وكان الرضيّ قد قدّم للنهج يقول : (( رواياتُ كلامِهِ عليه السلام تختلفُ اختلافا شديدا ...))(4) . ولذا كان هو أول المعنيين في إيراد الروايات المتعددة وتوجيهها والاختيار بينها . من ذلك أنه لما أورد قول الإمام (عليه السلام)  في الخوارج :(أصابَكُم حاصِبٌ ، ولا بَقِيَ مِنْكُمْ آبر)(5) قال : (( قوله (عليه السلام) : ولا بَقِيَ مِنْكُمْ آبر) يروى على ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون كما ذكرنا (آبر) بالراء من قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل ، أي : يصلحه ، ويروى آثر بالثاء- بثلاث نقط - يراد به الذي يأثر الحديث أي يرويه ويحكيه وهو أصح الوجوه عندي كأنه عليه السلام قال : لا يبقى منكم مخبر! ويروى آبز بالزاي المعجمة وهو الواثب ))(6).

 ويعدّ تعدد الروايات في اللفظة الواحدة أو العبارة الواحدة سمة مميزة في نهج البلاغة تشهد بان النهج للإمام عليّ (عليه السلام) ، اذ لو كان النهج من وضع الرضيّ لما وجدنا فيه الآن هذا الكم الهائل من الروايات المتعددة المتباينة التي يحتاج جمعها والمقابلة بينها كتابا كبيرا كالذي عنوانه ( تمام نهج البلاغة ) .

وأكد شُرّاح نهج البلاغة هذا الاختلاف بين نسخ النهج الكثيرة التي كتبها القدماء بدءا من نسخة الرضيّ ومرورا بالنسخ الأخرى المحفوظة اليوم في مدن الهند وإيران ودمشق والقاهرة وغيرها. فاجتهد الشارحون في تحقيق صحّة هذه النسخ ، وضبط عباراتها وألفاظها ، والإشارة إلى خطأ النساخ والمحشّين فيها، ووجهوا الروايات المختلفة ، وقابلوا بين النسخ المتعددة وتلمسوا سبب هذا الاختلاف وعزوا بعضه إلى تحريف النساخ وقبلوا بعض الروايات الأخرى من التي ذكروا لها وجها مقبولا في العربية . وقد برع الشّرّاح المتأخّرون في هذا الجانب فأكثروا من سرد الروايات المتعددة مشيرين إلى نسخها ومجتهدين في التوفيق بينها وانتقاء الأصوب منها ومرجحين  ما ورد منها في نسختي ابن أبي الحديد ( ت 656هـ) وابن ميثم البحراني (ت 679هـ)  على غيرها من النسخ لأن نسخة البحراني هي نسخة المصنف – الشريف الرضيّ - ونسخة ابن أبي الحديد قريبة منها في الزمن(7)  .  وقد استند الشّرّاح إلى طائفة من الأسس القوية في ترجيحهم رواية على أخرى ، منها الاعتماد على نسخة المصنف ( الشريف الرضي ) والأخذ بقياس العربية والاعتماد على المعجم العربي والاستدلال بسياق الكلام ومراعاة مناسبة الخطبة وغير ذلك من وسائل توثيق النص التي توافرت لهم .

ويعد هذا البحث محاولة جديدة للتوفيق بين روايات نهج البلاغة والمفاضلة بينها اعتمادا على أساس قوي جديد هو الاحتكام إلى علم الدلالة العربي بمستوياته الأربعة (الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي) بغية تبيان الرواية الصحيحة التي يكتمل بها المعنى العام للنص ولا يكتمل بغيرها . فوقف البحث عند طائفة من الألفاظ النهجيّة التي رويت بطرق مختلفة مرجحا إحدى رواياتها اعتمادا على نتائج علم الدلالة من حيث جرس الأصوات ومعاني الأبنية ودلالة التراكيب والمعنى المعجمي . وفي النية إتمام البحث في هذا الموضوع ليأتي في كتاب يجمع أشتاته حاويا جميع ألفاظ نهج البلاغة التي رويت بطرق مختلفة ثُمَّ يفاضل بين تلك الروايات مراعيا اختلاف المعنى بين رواية وأخرى ثُمَّ انتقاء الرواية ذات المعنى الملائم للسياق الذي وردت اللفظة فيه .

روايات النهج والدلالة الصوتيّة

 ثمّة ضرب من الدلالة يقوم على التلاؤم بين الأصوات وتناغمها بطريقة تؤدي إلى إيقاع يجعل المفردة توحي بجرسها وأصواتها المكونة لها على معناها هو الدلالة الصوتية ، وقد عرف إبراهيم أنيس هذا الضرب من الدلالة فقال : (( الدلالة الصوتية وهي التي تستمد من طبيعة بعض الأصوات ... فكلمة تنضخ كما يحدثنا كثير من اللغويين القدماء تعبر عن فوران السائل في قوة وعنف وهي إذا قورنت بنظيرتها تنضح التي تدل على تسرب السائل في تؤدة وبطء يتبين لنا أن صوت الخاء في الأولى له دخل في دلالتها فقد أكسبها في رأي أولئك اللغويين تلك القوة وذلك العنف ، وعلى هذا فالسامع يتصور بعد سماعه كلمة تنضخ عينا يفور منها النفط فورانا قويا عنيفا والفضل في مثل هذا الفهم يرجع إلى إيثار صوت على آخر أو مجموعة من الأصوات على أخرى في الكلام المنطوق ))(8) ثُمَّ تمسك معظم الباحثين بهذا التعريف مع شيء من التغيير في أمثلته أو ألفاظه(9) . وهو تعريف قاصر عن وصف مظاهر الدلالة الصوتية كلها إذ تلمس المحدثون(10)جملة من أنماط الكلام عدّوها أسسا للدلالة الصوتية تعتمد على الصوائت والصوامت والمقاطع والألفاظ والجمل . وقد يكون من العسير جمع هذه الأنماط الدلالية في حد جامع ولذا يكون تعريف الدلالة الصوتية بالتفصيل لا بالإجمال كأن يقال: إن الدلالة الصوتية هي الدلالة المستوحاة من تتابع الحركات والحروف في نسق معين أو التعاقب بينها تعاقبا فرديا أو مزدوجا أو تكثيفها بالتكرار والتضعيف والمدّ . وتستمد أيضا من نظم الجمل والتراكيب بطريقة تومئ إلى المعنى الدقيق لا بنظمها الظاهر المكتوب بل بإلقائها المسموع من حيث ضغط مجرى الهواء في موضع معين أو الصعود والنزول فيه أو قطعه واستئنافه  .

وتمكن الإفادة من نتائج هذا الضرب من الدلالة في توجيه ألفاظ النهج التي رويت بأكثر من وجه لاختلاف في الشكل الحركي أو البناء الصوتي ثُمَّ المفاضلة بين تلك الروايات بناء على الدلالة المستحصلة من تشكيلها الصوتي وما فيه من تعاقب للصوائت أو الصوامت وهو ما عرف حديثا بالاستبدال الفونيمي(11) كما في المثالين الآتيين  . 

1 ـ  خبَر ، خبِر ، خبُر .    

 قال الإمام (عليه السلام) في توحيد الله تعالى :(قَدْ عَلِمَ السَّرائِرَ وخَبَرَ الضَّمائِرَ، لهُ الإحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ)(12) . وفي (خبر الضمائر) روايتان (خبَر) و(خبُر) بضم عين الفعل وفتحها ، إذ قال قطب الدين الراونديّ ( ت 573هـ) : (( خبَر الضمائر بفتح الباء أي امتحن ، وروي خبِر بالكسر أي علِم ))(13) . ووافقه ابن أبي الحديد فقال : (( خبَر الضمائر بفتح الباء امتحنها وابتلاها  ومن رواه بكسر الباء اراد علِم ))(14) وعلى هذا حبيب الله الخوئي (ت 1234هـ) الذي زاد رواية ثالثة هي(خبُر) كـ(كرُم) (15) .

واكتفى طائفة من الشراح(16)  بذكر رواية الفتح وحدها وهي التي فسرت بالامتحان والابتلاء . على حين اكتفى السيد محمد الشيرازي  برواية الكسر وحدها وفسر (خبِر) باطّلع وعلم(17) . وهو تفسير مردود لان السياق سبق إلى ذكر (علم السرائر) ولو أراد العلم لكرر الفعل نفسه مع الضمائر . وقد ذكر أبو هلال العسكري (ت 395هـ) أنّ ثمّة فرقا بين الخبرة والعلم ذلك أنّ (( الخبر هو العلم بكُنه المعلومات على حقائقها ففيه معنى زائد على العلم))(18) . ولذا أسند العلم إلى السرائر لأن السرائر جمع سريرة وهي ما يكتمه الإنسان ويكنّه في نفسه(19) فيحتاج إلى كشفه والعلم به ، أما الخبرة التي فيها معنى زائد على العلم فأسندت إلى الضمائر وهي جمع ضمير ، وضمير الإنسان قلبه وباطنه(20) .   ويبدو أن الضمير كناية عن موضع الاعتقاد والميل الفكري لدى الإنسان فيحتاج إلى أن يختبر ويفتتن ويمتحن لا أن يعلم به فحسب . أي أنّ مقصد الإمام (عليه السلام) أن الله كاشف السرائر مطّلع عليها، عالم بها، وانه يمتحن الناس ويخبُرهم ويمحصهم ليميّز الخبيث من الطيب لا من عدم معرفته بذلك  ولكن لإثبات الحجة على الخلق .

ومن هنا يكون الملائم للسياق (خبَر) بالفتح وهو الامتحان والابتلاء لان غاية الابتلاء هو الوضوح والبيان والجلاء ، أي جلاء الخبيث من الطيب ، ووضوح الحق من الباطل . وأمّا خبر بمعنى علِم فان العلم بالشيء  يستدعي النفاذ إلى جوهره واستكناه باطنه وظاهره ، فلاءمت الكسرة هذه المعاني لثقلها مقارنة بالفتحة(21) ، وأما (خبُر) بالضم فهو أن تكون الخِبرة سجيّة لصاحبها ملازمة له لا تنفكّ عنه وحينئذ يسمى صاحب الخبرة بالخبير في ذلك الشيء وهنا لاءمت الضمة هذه الدلالة لأنّها الأثقل(22) . والباري – عز وجل – خبير بكل شيء ولذا لا معنى لضم عين الفعل في هذا المقام لان (خبر) واقع على الضمائر هنا فقط لا على جميع الموجودات .

2 ـ أرجف ، أوجف

قال الإمام (عليه السلام) يصف من يجاوز الصراط :( أظْمأ الرَّجَاءُ هواجرَ يومهِ وظَلَفَ الزُّهْدُ شهواتِهِ وأوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسانِهِ)(23) . وضبط معظم الشّرّاح الفعل أوجف بالواو من الوجيف وهو ضرب من السـير السريع للإبل والخيل(24) والمعنى أسرع الذكر بلسانه ، وكأنّ الذكر لشدة تحريكه اللسان موجف به كما توجف الناقة براكبها أي تسرع(25) .  وأشار فريق(26) منهم إلى أنّ الفعل رُوي في النسخة المصرية (أرجف) أي : تحرّك واضطرب اضطرابا شديدا(27) . ومعنى  أرجف الذكر بلسانه ، أنّ الذكر يحرّك لسانه كأنّ به رجفة من كثرة ذكر الله(28) .

وجرس الواو بما فيه من لين واندفاع للهواء وضم الشفتين(29) يلائم الدلالة على السير السريع ، إذ ينزاح الهواء من على جانبي الموجف المسرع كما ينزاح الهواء بالواو بين الشفتين . أما الرجف فدلالته على التحريك تنبثق من جرس الراء التكراري المرفرف المضطرب على سقف الفم

ثُمّ صحح الشيخ محمد تقيّ الدين التستريّ (ت 1415هـ) رواية الفعل أوجف بالواو وضعّف الرواية الأخرى معتمدا على مناسبة معنى (أوجف) للسياق الذي يصف المؤمن وهو يجتاز الصراط المستقيم ولسانه لهج بذكر الله وليس المعنى أن المؤمن يحرك لسانه مضطربا خائفا لان الخائف يظهر أثر الاضطراب في أعضاء جسده كلها وليس في اللسان وحده . أما وجود ارجف في النسخة المصرية فأمر لم يثن التستريّ عن تصحيح أوجف لأنه كذلك في نسختي ابن أبي الحديد  والبحراني وهما من هما في التحقيق والتوثيق(30)  .

 

روايات النهج والدلالة الصرفية

  حدّد العلماء نوعًا من الدلالة الصرفيّة يُستمدّ من هيأة الألفاظ أو طريقة صوغها وتعاقب الحروف في تشكيلها ، أو زيادتها فيها بمقدار معيّن . فما تشابه منها في ذلك يكون مجتمعا في صيغة واحدة تنماز من غيرها من الصيغ بدلالة معينة.    وهذا النوع من الدلالة يقترن بأبنية العربية جميعها . ويُعَدّ كتاب سيبويه منهلا ثرّا لكل الباحثين عن معاني أبنية العربية ، فلم يترك بناء إلا وساق معه معانيه المفهومة من أمثلته ، وفي عدة مواضع جهر سيبويه بما أخذه عن الخليل من مداليل الأبنية(31).

  ويبدو أنّ أبا البقاء الكفويّ ( ت 1094هـ ) هو أوّل من صرّح بتعريف الدلالة الصرفية التي سمّاها : (معنى الصيغة) . إذ بيّن إن للفظة نوعين من الدلالة : الأول ، دلالة لغويّة تفهم من اللفظة نفسها. والآخر، دلالة الصيغة وهي المستمدة من طبيعة ائتلاف الحروف الأصول والزوائد والحركات والسكنات على نسق معين متشابه فقال : (( كلُّ لفظ له معنى لغويّ وهو ما يفهم من مادّة تركيبه ومعنى صيغي وهو ما يفهم من هيأته أي حركاته وسكناته وترتيب حروفه لأن الصيغة اسم من الصوغ الذي يدلّ على التصرّف في الهيأة لا في المادة ))(32). وقال أيضا في التفريق بين دلالة الألفاظ ودلالة الأبنية : (( ما دلّ عليه أصل التركيب فهو دلالة اللّغة ، وما دلّت عليه هيأته فهو دلالة الصيغة ))(33).

أمّا المحدثون فقد توالت جهودهم في تلمُّس معاني أبنية العربيّة من الأسماء والأفعال ، ويبرز منهم الباحثان العراقيان الدكتور هاشم طه شلاش (رحمه الله) في كتابه أوزان الفعل ومعانيها ، والدكتور فاضل السامرائي في كتابه معاني الأبنية في العربية.

وتمكن الإفادة من معاني الصيغ في العربية في المفاضلة بين القراءات القرآنية واختلاف الروايات في ألفاظ المتون الشعرية والنثرية كالمعلقات وغيرها فضلا عن الفاضلة بين الراويات المختلفة في روايات نهج البلاغة كما في المثالين الآتيين :

 

1ـ مُطَّلَّبة ، مُطَّلَبة ، مُطْلِبة ، مُطَلَّبة ، مطلوبة .

قال الإمام (عليه السلام) من كتاب له إلى معاوية : (( فاتَّقِ اللهَ في ما لديك ، وانظرْ في حقِّه عليك ، وارجِعْ إلى معرفةِ ما لا تُعذرُ بجهالتهِ ، فإنّ للطاعة أعلامًا واضحة ، وسبُلا نيِّرة ، ومحجّةً نَهْجَة ، وغاية مُطَّلَبة ، يرِدها الأكياس ويخالفها الأنكاس ))(34) .

وفي ( مُطَّلَبة ) عدة روايات تباين الشراح في الاختيار بينها . فالراوندي ضبط اللفظة بضم الميم وتشديد الطاء واللام وفتحهما معا فقال : (( المُطَّلَّبة أي متطلّبة ، يقال : تطلّبت كذا أي طلبته جدا ))(35) . فأصل اللفظة قبل الإدغام هو متطلّبة ثُمَّ أبدلت التاء طاء وأدغمت الطاء بالطاء فصار مطلبة وهي اسم مفعول من باب التفعّل الذي يدل على التدرج في حصول الفعل(36) لا الطلب الشديد كما ذكر الراوندي ، ذلك أنّ (( التطلّب : الطلب مرة بعد أخرى ))(37).

على حين ضبط البحراني اللفظة (مُطَّلَبة) (( بتشديد الطاء وفتح اللام بمعنى مطلوبة جدا منهم ، وهي وصولهم إلى حضرة قدس الله طاهرين مجردين ))(38) . أي إن اللفظة لديه اسم مفعول من باب الافتعال وهي من (اطّلبت الشيء ) على وزن افتعل وأصله (اطتلب) فأبدلت التاء طاء كما هو القياس في باب الافتعال إذا كانت الفاء طاء أو ظاء أو صادا أو ضادا(39) .

ووصف العلامة المجلسي ( ت 1111هـ) هذه الرواية بالأشهر لأنّ (( النسخ المصححة متّفقة على تشديد الطاء ، فالكلمة على هذا من (اطّلب) كافتعل ))(40)  .

ورأى ابن أبي الحديد أنّ اللفظة يستدعي معناها أن تكون اسم فاعل لا اسم مفعول فقال : (( غاية مُطْلِبة أي مساعفة لطالبها بما يطلبه ، تقول : طلب فلان مني كذا فأطلبته أي أسعفت به ))(41) . وواضح من هذا أن ابن أبي الحديد قرأ اللفظة (مُطلبة) بضم الميم وسكون الطاء وكسر اللام على أنها اسم فاعل لأنها تسعف طالبها فهي اسم فاعل لا اسم مفعول . وهي من باب الإفعال لا التفعل كما في قول الراوندي ولا الافتعال كما في قول البحراني . ولذا ردّ ابن أبي الحديد على الرواندي اختياره الرواية (مُطّلّبة) فقال يصف قوله المذكور آنفا : (( هذا ليس بشيء ويخرج الكلام عن أن يكون له معنى ))(42) .

ثُمَّ وُصف اختيار ابن أبي الحديد بأنه ليس بسديد لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) وصف الغاية المطلبة فقال : (يردها الأكياس ويخالفها الأنكاس) وهذا يرجح أن تكون المطلبة اسم مفعول لا اسم فاعل لأنها يقع عليها ورود الأكياس ومخالفة الأنكاس(43) .

ورفض الشيخ التستري أن تكون الغاية مساعفة لصاحبها في قول ابن أبي الحديد ، إذ (( المعنى لا يساعده ، لأن الجنة غاية الطاعة وليست بمساعفة لطالبها ، كيف وقد حُفّت بالمكاره . وإنما المناسب إذا كانت المطلبة فاعلا من الإفعال أن تكون من قولهم : ماء مُطلِب وكلأ مُطلِب : تباعدا فطلبهما الناس ))(44) . أي أنّ التستري أنكر أن تكون المطلبة فاعلا من (طلب فلان مني فأطلبته) ، بل هي فاعل من الكلأ المُطلب وهو البعيد الذي لا يوصل إليه إلا بمشقة(45). فيكون ( المطلب) هنا فاعلا بمعنى المفعول كما في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ  إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ  فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ  ﴾ [الحاقة : 19 - 21]  فقد أوّلوا (عيشة راضية) بمرضيّة(46) .

ونقل بعض شارحي  النهج أن اللفظة ضبطت (( بتشديد اللام المفتوحة كما في نسخة الرضي ))(47) . إذ يقال (( طلّبه تطليبا : طلبه في مهله ))(48) . ووصف التستري الأخذ بهذه الرواية بأنه لا يخلو من تكلف ولم يطمئن إلى أن ضبطها بتشديد اللام وحدها كان بخطّ الرضي(49) . ووجه ضعف هذه الرواية أنّ الإمهال في هذا الطلب لا يلائم حال الأكياس الواردين إلى الجنة بطاعة الله .

وثمّة رواية أخرى هي الخامسة بعد الذي ذكر آنفا وردت في النسخة المصرية هي (غاية مطلوبة) رأى الشارح التستري أنها غلط فقال ينكرها : (( تبديل المصرية مطلبة بمطلوبة غلط لاتفاق ابن أبي الحديد وابن ميثم والخطية على كونه مطلبة وكذا الراوندي ))(50) . يريد أنّ رسم اللفظة لم تظهر فيه واو اسم المفعول (مطلوبة) في كل الروايات الأربع المذكورة آنفا بل أطبق الجميع على أنها رسمت بأربعة أحرف هي الميم والطاء واللام والباء بعدها تاء التأنيث. وإنما الاختلاف في الشكل والضبط بالحركات لا في الأحرف الأصول .

ولما وجد الشارح التستري تعدد الروايات في هذه اللفظة واضطرابهم في توجيهها ، احتمل – فضلا عما سبق - أن تكون اللفظة ( مَطلبة ) وهي اسم مكان من الثلاثي  أو ( مُطَّلِِبة )  وهي اسم فاعل من  باب الافتعال ، وذلك اعتمادا على ما وجده في جمهرة اللغة(51) فقال : (( يجوز أن تكون مَطلبة بفتح الميم مفرد مطالب قال في الجمهرة : المطالب مواضع الطلب . ويجوز أن تكون واحدة المطالب (مَطْلَبة) والمعنى يساعده بأن يكون المراد أن للطاعة غاية وهي الجنة موضع الطلب ، ويجوز أن تكون (مُطَّلِبة) بتشديد الطاء من باب الافتعال كالمُطَّلِب الذي هو اسم أخي هاشم ))(52) 

والراجح مما ذكر سابقا هو الرواية (مُطَّلَبة) بتشديد الطاء على أنها اسم مفعول من باب الافتعال ذلك أن اسم المفعول فيه دلالة على أن الجنة غاية لا بد أن يتحمل الناس الابتلاء والفتنة في طلبها . ثُمَّ إن مجيئها من باب الافتعال يوحي بأنها صارت مطلبا لهم أو اتخذوها مطلبا أو صيروها كذلك  لأن باب الافتعال من أشهر معانيه هو الجعل والصيروة والاتخاذ(53) . نحو ائتمّ فلان بفلان أي اتخذه إماما أو جعله إماما وصار هو إماما لمن خلفه(54) .

2 ـ  فكِهٌ ، فاكِهٌ .

قال الإمام (عليه السلام) في وصف حال العرب لما بعث الله تعالى عليهم محمدا (صلى الله عليه وآله) :  (...فأصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِيْن وفِيْ خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِيْن)(55) . ثُمَّ قال ابن أبي الحديد : (( فاكهين : ناعمين ، وروي فكهين ،أي : أشرين . وقد قرئ بهما في قوله تعالى ﴿ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا  فَاكِهِينَ [الدخان : 27] ))(56). وقد تعدّدت المعاني التي ذكرها الشّرّاح(57 الآخرون لفكهين ، ومنها : مزحين ، فرحين ، راضين ، مسرورين(58) .

وكل ما سبق ذكره لم يدلنا على المعنى الدقيق للأصل (فكه) كي يفرق على وفقه بين (الفكه) و(الفاكه) . ونظائر (فكه) في باب الاشـتقاق الأكبر (الإبدال) تفسر معنى فكه تفسيرا اقرب إلى الدقة مما قاله الشراح والمعجميون ، ذلك إن القرآن استعمل الفكّ مع الرقبة . ويعني العتق من القيد ، ومعنى (فكه) لا يبتعد عن (فكّ) كثيرا ، وهو سرور بعد غم ، ودلت الهاء بجرسها الخفيّ على سرور الروح الذي هو شعور داخلي وربما يبالغ به ليبلغ البطر ، فيكون تفسير الفكه بالمزاح أقرب الأقوال إلى مدلول اللفظة الدقيق . وقد أكد البحراني هذا المدلول حين قال: (( الفكه طيب النفس المسرورة ))(59). ثمّ ردّد خالفوا البحراني كلامه فقرنوا الفكه بطيب النفس وسرورها إلى درجة البطر والأشر والمزاح والنعومة والسرور والرضا وغير ذلك مما يفهم من السرور بعد الغم(60) .

وواضح أنّ (فاكهين) دالّ على سعة المسرّة وطيب النفس في وقت محدّد لا دائم بدلالة البناء (اسم الفاعل) فكأنّ الفكه الواسع والمسرة العظيمة لم تكتمل لهم . وفي قوله تعالى : ﴿ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ﴾ قرينة تدل على عدم استدامة الفكَه في اللفظ (فاكهين) وهي لفظة (نَعمة) بفتح النون إذ هي على بناء (فَعلة) الذي يدل على المرة الواحدة ، ولذا ساغ نزع هذه النعمة منهم في الآية بعدها : ﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان : 28] ﴾ . ولو كانت (نِعمة) بكسر النون لكانت هيأة لهم ووصفا لحالهم فلا يسوغ سلبها منهم . وأما (الفكهين) فينبئ بتماسك الفكه والتصاقه بهم على وجه المبالغة والاستمرار بدلالة البناء (فعِل) فهو مبالغة وكثرة في القيام بالفعل(61) . و(الفكهين) لا يتصور قيامهم بعمل غير (الفكه) والا لما صحّت المبالغة ، أما (الفاكه) فيتوقع منه القيام بعمل آخر غير الفكه وهنا اختلفت دلالة (الفاكه) بأنه فاعل الفكه وغيره ، ولذا لم يكن الفكَه ملازما له لانه لم يجبل نفسه عليه أما الفكِه فهو الذي شغله الفكَه عن أي عمل آخر.   

ولمّا وصف القرآن الكريم ونهج البلاغة قوما فكهوا بنعمةٍ ثُمَّ زالت عنهم كان وصفهم بالفاكهين أبين من الفكهين لأن الفاكه يسلب منه هذا الفعل وأما الفكِه فلا يبرح الفكَه وإلا لم يصدق عليه هذا اللفظ بهذا البناء .

  ومثل فاكهين وفكهين قوله تعالى : ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة : 4] ﴾  إذ قُرئ (ملِك)(62) . وفرق المفسرون بين القراءتين بأن الحجة لمن قرأ (مالك) هي أن الملك داخل تحت المالك بدليل قوله تعالى : ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران : 26] ﴾ . وأما حجة من قرأ (ملِك) فهي أن الملك أخص من المالك فقد يكون المالك غير ملك ولا يكون الملك إلا مالكا ، أي أن الملك أبلغ وأقوى من المالك في الدلالة على معنى الملك(63).

ويمكن عضد قراءة (مالك يوم الدين) على قراءة (ملك) بأن يقال : إن (يوم الدين) هو من أيام الله التي لا يزعم أحد أنه مالكها فاستعمل القرآن مالك مع يوم الدين إشارة إلى أن هذا اليوم مُلك لله وحده لا يشاركه فيه أحد ولو قال (ملك) لفهم منه وجود مالك وهو أقل حيازة ليوم الدين من الملِك ؛ لأن ما تحت الملك هو المالك وليس ما تحت المالك سوى المملوك (العبد) وهو حال جميع الخلائق يوم الدين .

 

روايات النهج والدلالة النحوية

عني علماء العربيّة بنوع من الدلالة مستنبط من قواعد النحو العربيّ وما تشير إليه العلاقة بين المفردات في التركيب الواحد . ذلك أنّ النحو لديهم هو (( علم باحث عن أحوال المركبات الموضوعة وضعا نوعيا لنوع من المعاني التركيبية النسبية من حيث دلالتها عليها ، وغرضه تحصيل ملكة يقتدر بها على إيراد تركيب وضع وضعا نوعيا لما أراده المتكلم من المعنى وعلى فهم معنى أي مركب كان بحسب الوضع المذكور .وغايته الاحتراز عن الخطأ في تطبيق التراكيب العربيّة على المعاني الأصلية ))(64) . واللفظ المفرد لا يفهم معناه بعيدا عن سياقه ، (( فلا ترى كلاما ما قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك الميزة وذلك الفضل إلى معاني النحو ))(65).

ثُمَّ أضحى موضوع الدلالة النحويّة لدى المحدثين علما قائما بذاته فأطلقوا عليه عدة تسميات لكن الشائع هو الدلالة النحويّة وهي الدلالة المفهومة (( من استخدام الألفاظ أو الصور الكلامية في الجملة المكتوبة أو المنطوقة على المستوى التحليلي أو التركيبي))(66) .

والدلالة النحويّة في اللغة العربيّة على قسمين : الأول : دلالة نحوية عامة وهي المعاني العامة المستقاة من الجمل والأساليب. والآخر : دلالة نحوية خاصة وهي المفهومة من معاني الأبواب النحويّة كالفاعل والمفعول به والمبتدأ والخبر وغير ذلك(67).

وفي نهج البلاغة عدة روايات تباينت في الإعراب ، ومن ثمّ تمكن الإفادة من معاني النحو في المفاضلة بينها كما في المثالين .

 

1 ـ تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ ، تِجَارَةً مُرْبِحَةً

 قال الإمام (عليه السلام) يصف المتّقين : (صَبَرُوا أَيَّامًا قَصِيْرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةٌ طَوِيْلَةٌ. تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ)(68) . وفي : (تجارة مربحة) روايتان تفاوت الشّرّاح في الاختيار بينها . فالراونديّ اختار النصب . وجوّز فيه أربعة أوجه : (( أما البدل من الراحة ، وأما النصب على المدح ، وأما على الحال ، وأما على تقدير اتّجروا ، ونصب المصدر مع حذف فعله كثير في الكلام ))(69) . ووجّه ابن أبي الحديد نصب (تجارة مربحة) على أنها مصدر محذوف الفعل  . لكنّه اختار رفع (تجارة مربحة) على الابتداء . والتقدير : تجارتهم تجارة مربحة ، فحذف المبتدأ(70) . ووافقه الخوئي(71).

واستظهر الشارح الكيدري المتوفى في نهاية ( القرن السادس الهجري ) رواية النصب وجوّز فيها ما احتمله الراونديّ إلا تجويزه إعراب (تجارة) بدلا من (راحة) فهذا الوجه (( ليس بالقوي لأن التجارة المربحة ليست بنفس الراحة وإنما صبرهم المستعقب لتلك الراحة هي التجارة ))(72) . وزاد على ما ذكر الراونديّ أن تكون تجارة منصوبة بفعل مضمر يفسّره ما بعده أي : يسّر لهم ربهم تجارة(73) .

وجاء البحراني برواية الرفع وحدها ، فلم يذكر رواية النصب ، ورأى أنّها تدلّ على الثبات والاستقرار على العمل الصالح إذ (( استعار لفظ التجارة لأعمالهم الصالحة وامتثال أوامر الله . ووجه المشابهة كونهم متعوضين بمتاع الدنيا وبحركاتهم في العبادة متاع الآخرة . ورشح بلفظ الربح لأفضلية متاع الآخرة وزيادته في النفاسة على ما تركوه ))(74) .

والراجح رفع (تجارة) ففضلا عن وجودها في نسختي أبن أبي الحديد والبحراني يفهم من الجملة الاسمية (تجارةٌ مربحةٌ) دلالتها على اللزوم والثبات والاستقرار على العمل الصالح . فيكون عمل الإنسان في الدنيا في حكم التجارة إذ يعمل هنا ويأخذ هناك . أما النصب ففي جميع وجوهه التي أوردها الرواندي يدل على زوال العمل الصالح ، وعدم استقرارهم عليه بلحاظ الفعل المقدّر مع نصب تجارة سواء كان مقدّما أم مؤخّرا .

2 ـ لا جبرائيلُ ولا ميكائيلُ ولا مهاجرون ولا أنصارٌ

لا جبرائيلَ ولا ميكائيلَ ولا مهاجرين ولا أنصارَ

قال الإمام (عليه السلام) في فضل الإسلام على الأمّة : (وَإنَّكم إنْ لجأتُمْ إلى غيره حاربَكُمْ أهْلُ الكُفْرِ ، ثُمَّ لا جبرائيلُ ولا ميكائيلُ ولا مهاجرون ولا أنصارٌ ينصُرُونَكم إلا المقارعةَ بالسيفِ)(75) . ثُمَّ رأى أكثر الشّرّاح أن الرواية المشهورة هي نصب (جبرائيل ، وميكائيل ، والمهاجرين ، والأنصار)(76) . ووجه النصب أنّ هذه الأسماء ، وإن كانت مفردة عوملت معاملة الجنس بعد (لا) النافية للجنس  (( وهو جائز على التشبيه بالنكرة كقولهم : معضلة ولا أبا حسنٍ لها . 

قال الراجز(77) :  لا هيثمَ الليلة للمطيّ ))(78).  وضعّف البحراني رواية نصب هذه الأسماء ، وعلى الرغم من ذلك علل نصبها بعد (لا) النافية للجنس بأنّ الملكين المذكورين لوحظ (( فيهما التنكير ولذلك أتى عقيبهما بعد لا بالنكرتين ))(79).

 وعضد الخوئي رواية النصب في هذه الأسماء بعد (لا) النافية للجنس بما استقر عند النحويين(80) من إنّ العَلَم المشهور في باب لا النافية للجنس قد يؤول بنكرة فينتصب وينزع منه لام التعريف (( ولتأويله بالنكرة وجهان: إما أن يقدر مضاف هو: (مثل) ، فلا يتعرف بالإضافة لتوغله في الإبهام ، وأما أن يجعل العلم لاشتهاره بتلك الخلة كأنه اسم جنس موضوع لإفادة ذلك المعنى ؛ لأنّ قضية ولا أبا حسن لها : لا فيصل لها ...فصار اسمه كالجنس المفيد لمعنى الفصل والقطع كلفظ الفيصل . ))(81). ومن هنا رأى الخوئي أنّ تأويل النصب في : (لا جبريل ولا ميكائيل) معناه أنّه لا ناصرَ لكم ولا معاونَ(82) . فخرجه على العموم والسعة لا التخصيص والتعريف.  واستدل التستريّ بسياق المعاطيف في عضد رواية النصب ؛ لان (( قوله عليه السلام : ولا مهاجرين ولا أنصار بلا لام دون أن يقول : ولا المهاجرين ولا الأنصار دليل على إرادة العموم بجبرائيل وميكائيل ، كقولهم : ولا أبا حسن ، دون أن يقول : ولا أبا الحسن ))(83). ومعنى العموم ظاهر مع نصب هذه الأسماء لأنها بمنزلة الأجناس لا الأفراد .

وفي هذه الأسماء الأربعة رواية أخرى هي الرفع رجحها البحراني بعد أن ضعّف رواية النصب . ووجه الرفع عنده هو الابتداء ، فتكون (لا) فيها ملغاة عن العمل ، والمعنى أن (( عدم نصرة الملائكة والمهاجرين والأنصار لهم ، أما لأن النصرة كانت مخصوصة بوجود الرسول والاجتماع على طاعته ، وقد زالت بفقده ، أو لأنها مشروطة بالاجتماع على الدين والألفة فيه ، والذب عنه ، وإذا التجئوا إلى غيره وحاربهم الكفار لم يكن لهم ناصر من الملائكة لعدم اجتماعهم على الدين ولا من المهاجرين والأنصار لفقدهم ))(84).

 ونبه الخوئي على إن إلغاء (لا) عن العمل في رواية رفع هذه المعاطيف الأربعة (( هو احد الوجوه الخمسة التي ذكرها علماء الأدب في نحو : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وعلى أي تقدير فالخبر محذوف ، وجملة : ينصرونكم وصف أو حال ))(85).

 وتقدير الخبر بالمعرفة أو بالنكرة هو الذي يحدد إعراب جملة (ينصرونكم) بين الحال أو الوصف . فلو قدر الخبر بلفظ (المعروفون) تعرب الجملة حالا ، ولو قدر بلفظ (موجودون) تعرب الجملة نعتا . والمعنى يستدعي أنْ يكون التقدير : فلا جبرائيل ، ولا ميكائيل ، ولا المهاجرين ، ولا الأنصار موجودون ينصرونكم ؛ لان تقدير الخبر بلفظ (المعروفون) يلزم منه جواز الإخبار عن أنصار ومهاجرين غير معروفين ينصرونهم ، فنفي النصرة عن هؤلاء المعروفين لا يلغي وجود النصرة من غير المعروفين منهم. أما تقدير الخبر بلفظ النكرة (موجودون) فلا يعارضه الإخبار عن الملائكة والمهاجرين والأنصار بغير موجودين ؛ لأنهم غير موجودين فعلا في الكوفة آنئذٍ ، ومع فساد تقدير الخبر معرفة يرجح كون الجملة (ينصرونكم) حالا . ويبقى رفع الأسماء الأربعة دليلا على تخصيص مدلولها بالملكين المعروفين والفريقين المعروفين .

روايات النهج والدلالة المعجميّة .

المراد بالدلالة المعجميّة هو ذلك النوع من الدلالة الذي يهتمّ بالكلمات المتداولة لدى مجتمع إنسانيّ معَيّن؛ لأنّ (( كلّ كلمة من كلمات اللغة لها دلالة معجميّة ، أو اجتماعيّة تستقل عمّا يمكن أن توحيه أصوات هذه الكلمة أو صيغتها من دلالات زائدة على تلك الدلالة الأساسية، التي يطلق عليها الدلالة الاجتماعيّة ))(86). إذ تكتسب الألفاظ في أيّ لغة دلالاتها لدى أبنائها عبر التلقّي والمشافهة والتواصل فيما بينهم . ولذا سّمي هذا النوع – أيضا -  بالدلالة الاجتماعيّة وهي (( الهدف الأساسي في كلّ كلام ، وليست العمليات العضليّة التي نقوم بها في النطق بالأصوات إلا وسائل يرجو المتكلم أن يصل عن طريقها إلى ما يهدف من فهم أو إفهام ))(87).

  إنّ مهمّة المعجم في أيّ لغة هي الكشف عن معنى الكلمة، إذ تعدّ دراسة المعنى المعجميّ أول خطوة في الحديث عن الكلمة ودلالتها ، لانّ الدلالات الصوتيّة والصرفيّة والنحويّة هي دلالات وظيفيّة(88). وقد سمّاها الدكتور تمّام حسّان بالمعنى الوظيفيّ. وكلّ من الصوت والصرف والنحو لا يدرس الكلمة ، وما يدرسها هو المعجم(89) .  

والمعجم  يبحث معنى الكلمة بذكر معناها أو مرادفها أو مضادّها أو ما يفسّرها، ويقدّم معلومات عنها كأصل الوضع ، وتطورها التاريخيّ ، ومشتقاتها، وقد يفسّر المعنى بنقيضه ، أو يبين علّة تسميته بهذا الاسم ، ويذكر بعض السياقات اللغوية التي توضح دلالتها(90). ولذا  يكون الاعتماد على المعجم العربي دليلا قويّا في المفاضلة بين الروايات المختلفة للكلمة نفسها في السياق الواحد كما في المتون الشعرية والنثرية ومنها ما جاء في متن النهج من كلمات كثيرة اختلفت رواياتها بين نسخة وأخرى . ثم تباين الشراح في الاختيار بينها كما في المثالين :

 

1 ـ أجال ، أجّل ، أحال ، أحلّ .

قال الإمام (عليه السلام) يصف خلق الكون : (( أنشأ الخلقَ إنشاء وابتدأه ابتداءً ، بلا رَويّة أجالَها ، ولا تَجربةٍ استفادها، ولا حَركةٍ أحدثَها ، ولا هَمامةِ نفسٍ اضطرب فيها . أحال الأشياء لأوقاتها ولاءم بين مختلفاتها ))(91) . وفي (أحال الأشياء لأوقاتها) أربع روايات هي : أحال وأحلّ وأجال وأجّل ، تفاوت شارحو النهج في توثيقها والمفاضلة بينها . فالبيهقي - أقدم من شرح النهج - ذكر روايتين بالجيم المنقوطة هما (أجال) و(أجّل) . ومعنى أجال الأشياء لأوقاتها : غيّرها(92) . وهو أفعل من الجولان بمعنى التغيير من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر . يقال: أجاله وأجال به إذا أدراه وحركه فغيّره(93) . كأنه سبحانه (( حرك الأشياء وردها في العدم حتى حضر وقتها))(94) . واختار الرواندي هذه الرواية ولم يلتفت إلى الأخريات ورأى أنّ معنى (( أجال الأشياء : أعادها وردّها ، أي وقتها وخلقها في أوقاتها ))(95). 

وواضح أن ذكر التوقيت في توجيه (أجال) غير مستحصل بل التوقيت ملائم لتوجيه الرواية (أحال الأشياء) بالحاء المهملة كما سيأتي بيانه لأنها من الحول أي السنة . فتكون الرواية (أجال) بالجيم ساقطة لأن المفهوم من ذكر الجولان ما هو إلا بعض مما يستحصل من الإحالة ، وما ذكر من تفسير الإجالة بالتردد والإدارة يدخل في تفسير الإحالة أيضا فضلا عن إنّ الفعل أجال ذكر في كلام الإمام في السياق نفسه ولكن بمعنى آخر وهو في (أنشأ الخلق إنشاء وابتدأه ابتداء بلا رويّة أجالها) ومعنى الإجالة هنا أنه تعالى خلق الخلق ولم يردّد فكرة الخلق في نفسه ولم يديرها في فكره . فليس من اللائق أن يعاد ذكر الفعل نفسه مع ربط الأشياء بأوقاتها . 

وأما الرواية الثانية (أجّل الأشياء ) فهي من التأجيل أي التأخير ومعنى الكلام بها هو (( أنّ الصلاح في الفعل قد يقف على وقت مخصوص فتقديمه وتأخيره يخرجه عن الصلاح ، فيجب أن يكون عالما بالأوقات المستقبلية حتى يجري التدبير على قضية الحكمة))(96) ورأى البحراني أنّ (( معنى تأجيلها هو جعل أوقاتها أجلا لها لا يتقدم عليها ولا يتأخر عنها كما إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون))(97) . وعلى الرغم من ذلك يفهم من التأجيل أنه يعنى تأخير أيجاد الأشياء إلى أجل مسمى دون بيان لمقصد . وفيه تفسير اللام بأنها نائبة عن إلى وهذا التناوب في الحروف ينبغي عدم الركون إليه إن وجد سبيل غيره .

وذكر ابن أبي الحديد روايتين بالحاء المهملة هما ( أحال وأحلّ ) . ولم يلتفت إلى الروايتين اللتين ذكرهما قبله البيهقي والرواندي بالجيم . ثُمَّ وجّه ( أحال وأحلّ ) قائلا : (( أما قوله (عليه السلام) : (أحال الأشياء لأوقاتها ) فمن رواها (أحلّ أشياء لأوقاتها) فمعناه جعل محل كل شيء ووقته كمحل الدين . ومن رواها ( أحال) فهو من قولك حال في متن فرسه أي وثب وأحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة ، وكأنه لما أقر الأشياء في أحيانها وأوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه ))(98) .

وكون الرواية (أحلّ) فهي - وإن كانت من الحلول بالمكان ، يقال : أحلّه المكان وبالمكان إذا جعله يحلّ به(99) - لا يستقيم معنى السياق بها لأن الحلول فعل مكاني وما بعده ذكر للزمان (لأوقاتها) فلا يستقيم الجمع بين المكان والزمان هنا فضلا عن أن اللام لا يصح تأويلها بمعنى الباء كي يتحقق معنى الحلول .

ورأى البحراني أن المراد بالإحالة هنا أنه تعالى لما ربط كل ذي وقت بوقته بحسب ما كتب في اللوح المحفوظ بحيث لا يتأخر متقدم ولا يتقدم متأخر فكأنه تعالى نقل كل منهما إلى وقته وحوّله من العدم واللامكان الصرف إلى مدته المضروبة لوجوده . واللام في (لأوقاتها) لام التعليل أي لأجل أوقاتها لأن كل وقت يستحق بحسب قدرة الله وعلمه أن يكون فيه ما لا يكون في غيره(100)

ووصفت الرواية (أحال) لدى شارحي النهج المتأخرين بأنها الأكثر شيوعا لكنهم لم يرتضوا توجيهها على أنها من أحال في متن فرسه كما ذكر ابن أبي الحديد - الذي يفهم من كلامه أن اللام في (لأوقاتها) لام التعليل أي : لأجل أوقاتها- . بل ما ذكره لا يخفى بعده لأن الرواية بالحاء المهملة يجوز أن تكون من الإحالة بمعنى التحويل أي : نقل كلا منها إلى وقتها فاللام بمعنى إلى وليس للتعليل(101) .

ويبدو أن الرواية (أحال) هي الراجحة . ففضلا عن ورودها في معظم النسخ  يستقيم المعنى بها دون غيرها وهي من الحول أي السنة . يقال : حال عليه الحول أي مرّ . وقد ذكرت المعجمات عدّة معان لـ(أحال) المزيد بالهمزة منها : أحال

الرجل : أتى بالمحال . وأحال في متن فرسه أي : وثب . وأحال الرجل إذا حالت إبله فلم تحمل تلك السنة . وأحال عليه بالسوط يضربه : أقبل . وأحال عليه الحول أي : مضى وانقضى(102) . ولذا يكون المراد بإحالة الأشياء لأوقاتها هو تحولها من حال إلى آخر فالإحالة هي :التحويل والنقل والتغيير والانقلاب من حال إلى آخر.

ويفهم من قوله (عليه السلام) : ( لأوقاتها) أن (( العالم لم يخلق دفعة واحدة بل على التدرج أو التطور وأن كل شيء يستند في وجوده واستمراره إلى إرادته تعالى مباشرة .))(103)

 

أ. م . د : كاطع جارالله سطام

الجامعة المستنصرية _ كلية الآداب

 

يتبع الجزء الثاني من البحث في مقال آخر


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

توصيات المؤتمر

يوم السبت الموافق 29 جمادى الاول 1444 الموافق 24/كانون الاول/ 2022 تحت عنوان بناء الانسان السبيل الامثل لبناء المجتمعات اجتمع
......المزيد

رؤى معاصرة في العلوم الانسانية والاجتماعية

أقامت مؤسسة النخب الأكاديمية ودائرة البحوث والدراسات في ديوان الوقف الشيعي المؤتمر العلمي السنوي الثاني ( رؤى معاصرة في العلوم
......المزيد

إعلان عن دورة في مناهج التفسير

تعلن منصة النخب الأكاديمية عن برنامجها الفكري المتكامل والذي سيبدأ في الأيام القادمة في شهري شعبان و رمضان المباركين.
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني 2 د. أحمد الأزيرجاوي

آليات التعامل مع النص القرآنيّ: أولاً منهجهم في دراسة التراث:
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني

د. أحمد الأزيرجاوي لماذا ندرس الاستشراق؟
......المزيد

شقشقة ليست بعيدة عن أجواء عاشوراء وأنا تراب نعل أبي تراب

تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ، أحين استصرختمونا والهِين ، فأصرخناكم موجفين ، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ،
......المزيد

الانهيار الشيعي في العراق

اُسدل الستار على الشيعة كجماعة سياسية في العراق وانتهى دورهم كقوة محتملة فاعلة ومؤثرة في مسار السياسة الإقليمية والدولية بعدما
......المزيد

دولة القانون تدعو الحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين

تدعو كتلة دولة القانون وزارة الصحة والحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين من المرضى الراقدين في المستشفيات والتعامل
......المزيد