ماهيّة الحسن في ما يستقبح رؤيته من الإنسان والحيوان

  • 01 - 05 - 2021
  • 4227
قال تعالى ذكره: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} صدق الله العلي العظيم #قد يتبادر إلى الذهن سؤال عن ماهيّة الحسن في ما يستقبح رؤيته من الإنسان والحيوان

؛ أي: أين الحسن في مؤخرة الأنعام والدواب على سبيل المثال؟!  الجواب أن الحسن هنا ليس في قبال الجمال؛ بل الحسن بمعنى الإتقان؛ لذلك جاء في التفاسير:  والمعنى: الذي أتقن كل مخلوق خلقه؛ فخلق الله كله حسن، والإنسان من أحسن مخلوقاته، بل هو أحسنها على الإطلاق، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها.  ويقول الطبري في تفسيره: ((وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب على قراءة من قرأه: (الَّذِين أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بفتح اللام قول من قال: معناه أحكم وأتقن؛ لأنه لا معنى لذلك إذ قرئ كذلك إلا أحد وجهين: إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان، أو معنى التحسين الذي هو في معنى الجمال والحُسن، فلما كان في خلقه ما لا يشكّ في قُبحه وسماجته، علم أنه لم يُعن به أنه أحسن كلّ ما خلق، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته، وأما على القراءة الأخرى التي هي بتسكين اللام، فإن أولى تأويلاته به قول من قال: معنى ذلك: أعلم وألهم كلّ شيء خلقه، هو أحسنهم))  وقال ابن عبّاس: أتقنه وأحكمه، ثمّ قال: أما إنّ است القرد (مؤخرته) ليست بحسنة ولكنّه أحكم خلقها.  «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» . أي أن من عزة الله ورحمته قيام هذا الوجود على أحسن نظام، وأكمله.. والمراد بالحسن هنا ليس مجرد حسن السورة، وإنما هو الحسن الذي يتجلى في إحكام الصنعة، ودقة التنسيق، وروعة التأليف، وتجاوب النغم، ووحدة الغاية، وإن اختلفت الاتجاهات، وتعددت الأنغام.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» .. فدبيب النملة على مسارها، وجريان الشمس في فلكها، وتدفق النهر في مجراه، وحفيف الأوراق على أشجارها، وكل همسة، وكل حركة في هذا الوجود، فى أرضه وسماواته، تؤلّف جميعها لحنا علوىّ النعم، يروع القلب جلاله، ويأسر الفؤاد حسنه وجماله.. سواء أنظر الإنسان إليها في اجتماعها أو افتراقها، وسواء استعرضها على تفصيلها أو إحمالها. وَالْإِحْسَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَسَنًا، أَيْ مَحْمُودًا غَيْرَ مَعِيبٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ وَافِيًا بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فَإِنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ الْأَشْيَاءَ رَأَيْتَهَا مَصْنُوعَةً عَلَى مَا يَنْبَغِي فَصَلَابَةُ الْأَرْضِ مَثَلًا لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، وَرِقَّةُ الْهَوَاءِ لِيَسْهُلَ انْتِشَاقُهُ لِلتَّنَفُّسِ، وَتَوَجُّهُ لَهِيبِ النَّارِ إِلَى فَوْقُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِثْلَ الْمَاءِ تَلْتَهِبُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَكَثُرَتِ الْحَرَائِقُ فَأَمَّا الْهَوَاءُ فَلَا يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ. وَقَوْلُهُ خَلَقَهُ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِ شَيْءٍ أَيْ: كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا وَهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنْهَا.  قال الراغب : الإحسان يقال على وجهين : أحدهما : الإنعام على الغير يقال أحسن إلى فلان والثاني : إحسان من فعله وذلك إذا علم علماً حسناً أو عمل عملاً حسناً وعلى هذا قول أمير المؤمنين رضي الله عنه : الناس على ما يحسنون أي : منسوبون إلى ما يعلمون من الأفعال الحسنة انتهى أي : جعل كل شيء خلقه على وجه حسن في الصورة والمعنى على ما يقتضيه استعداده وتوجبه الحكمة والمصلحة ،  طوّل رجل البهيمة والطائر وطوّل عنقهما لئلا يتعذر عليهما ما لا بد لهما منه من قوتهما ولو تفاوت ذلك لم يكن لهما معاش وكذلك كل شيء من أعضاء الإنسان مقدر لما يصلح به معاشه فجميع المخلوقات حسنة وإن اختلفت أشكالها وافترقت إلى حسن وأحسن كما قال تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين : 4) قال ابن عباس رضي الله عنهما : الإنسان في خلقه حسن. قال البقلي : القبيح قبيح من جهة الامتحان وحسن من حيث صدر من أمر الرحمن.  وقال الشيخ اليزدي : إن الله تعالى خلق الحسن والقبيح لكن القبيح كان في علمه أن يكون قبيحاً فلما كان ينبغي تقبيحه كان الأحسن والأصوب في خلقه تقبيحه على ما ينبغي في علم الله لأن المستحسنات إنما حسنت في مقابلة المستقبحات فلما احتاج الحسن إلى قبيح يقابله ليظهر حسنه كان تقبيحه حسناً انتهى. يقول الفقير : لا شك أن الله تعالى خلق الحسن والقبح وإن كان كل صنعه وفعله جميلاً ومطلق الخلق قد مدح به ذاته كما قال : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ} (النحل : 17) لكنه لا يقال في مقام المدح أنه تعالى خالق القردة والخنازير والحيات والعقارب ونحوها من الأجسام القبيحة والضارة بل يقال خالق كل شيء فالقبيح ليس خلقه وإيجاده بل ما خلقه وإن كان قبح القبيح بالنسبة إلى مقابلة الحسن لا في ذاته وقد طلب عين الحمار بلسان الاستعداد صورته التي هو عليها وكذا الكلب ونحوه وصورتها مقتضى عينها الثابتة وكذا الحكم على الكلب بالنجاسة مقتضى ذاته وكل صورة وصفة في الدنيا فهي صورة كمال وصفة كمال في مرتبتها في الحقيقة ولو لم يظهر كل موجود في صورة التي هو عليها وفي صفته التي ألبسها الخلاق إليه بمقتضى استعداده لصار ناقصاً قبيحاً فأين القبح في الأشياء وقد خلقها الله بالأسماء الحسنى.  { الذي أحسن كل شيء خلقه } . . . . واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل . الحق المتمثل في أشكال الأشياء ، ووظائفها . وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة . وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها . وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد . سبحانه! هذه صنعته في كل شيء . هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق . هذا كل شيء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان؛ فلا تجاوز ولا قصور ، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص ، ولا إفراط ولا تفريط ، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة . كل شيء مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص . ولا يتقدم عن موعده ولا يتأخر . ولا يتجاوز مداه ولا يقصر . . كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام . ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام . كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان . . وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث . وكلها من خلق الله . مقدرة تقديراً دقيقاً في موعدها وفي مجالها وفي مآلها ، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله . كل شيء ، وكل خلق ، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود ، معد لأداء هذا الدور إعداداً دقيقاً ، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل . هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف . هذه الدودة السابحة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون . هذه السمكة . هذا الطائر . هذه الزاحفة . هذا الحيوان . . ثم هذا الإنسان . . وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت . وهذه الأفلاك والعوالم؛ وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام . . كل شيء . كل شيء . حيثما امتد البصر متقن الصنع . بديع التكوين . يتجلى فيه الإحسان والإتقان . والعين المفتوحة والحس المتوفز والقلب البصير ، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه؛ وتراه في كل أجزائه وأفراده . والتأمل في خلق الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن ، يمنح الإنسان رصيداً ضخماً من ذخائر الحسن والجمال ، ومن إيقاعات التناسق والكمال ، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق؛ وتسكبها في القلب البشري؛ وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن ، يتملى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب . ويتصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي المنبثق من جمال الصنعة الإلهية الأصيلة... وجاء في كتاب  الظاهرة القرآنية للمؤلف: مالك بن نبي: لقد تخيل العلم دورة بيولوجية تغذت في وسط مائي حيث تكونت الخلية الحية الأولى وتشكلت واكتملت، حتى وصلت إلى هيئة الإنسان، فمن الأهمية بمكان أن نلحظ التوافق بين الدورة العلمية وبين الفكرة القرآنية التي تصوغها الآيات التالية: (1) {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ}. (طين = ماء + تراب) [السجدة 7/ 32] (2) {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة 8/ 32] (3) {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة 32] فقد سجلت أطوار الدورة بوضوح في هذه الآيات، إذ تسجل الآية الأولى طور الخلق الأول، وتسجل الآية الثانية طور التناسل، وتسجل الثالثة طور الاكتمال. ولقد وضعنا قصداً الشرح التخطيطي لكلمة (طين) بين قوسين لكي نستخرج منه كلمة (ماء)، الذي هو نقطة البدء في الدورة البيولوجية في النظرية العلمية. ليس هذا متعسفاً لأن القرآن يحدد- دون لبس- هذا الطور من أطوار الخلق ابتداء من الماء حيث يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء30/ 21]...

من إعداد الدكتور قحطان الأسدي


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

توصيات المؤتمر

يوم السبت الموافق 29 جمادى الاول 1444 الموافق 24/كانون الاول/ 2022 تحت عنوان بناء الانسان السبيل الامثل لبناء المجتمعات اجتمع
......المزيد

رؤى معاصرة في العلوم الانسانية والاجتماعية

أقامت مؤسسة النخب الأكاديمية ودائرة البحوث والدراسات في ديوان الوقف الشيعي المؤتمر العلمي السنوي الثاني ( رؤى معاصرة في العلوم
......المزيد

إعلان عن دورة في مناهج التفسير

تعلن منصة النخب الأكاديمية عن برنامجها الفكري المتكامل والذي سيبدأ في الأيام القادمة في شهري شعبان و رمضان المباركين.
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني 2 د. أحمد الأزيرجاوي

آليات التعامل مع النص القرآنيّ: أولاً منهجهم في دراسة التراث:
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني

د. أحمد الأزيرجاوي لماذا ندرس الاستشراق؟
......المزيد

شقشقة ليست بعيدة عن أجواء عاشوراء وأنا تراب نعل أبي تراب

تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ، أحين استصرختمونا والهِين ، فأصرخناكم موجفين ، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ،
......المزيد

الانهيار الشيعي في العراق

اُسدل الستار على الشيعة كجماعة سياسية في العراق وانتهى دورهم كقوة محتملة فاعلة ومؤثرة في مسار السياسة الإقليمية والدولية بعدما
......المزيد

دولة القانون تدعو الحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين

تدعو كتلة دولة القانون وزارة الصحة والحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين من المرضى الراقدين في المستشفيات والتعامل
......المزيد