برهان النظم

  • نشره :

  • 24 - 03 - 2014
  • 4403
إن الطرق الموصلة إلى معرفة الله تعالى متعددة ومتنوعة بعدد أنفاس الخلائق سواء عن طريق العقل أو النص أو الحس وكل هذه الطرق في النهاية توصلنا الى نفس النهاية بأن لهذا الكون إله خالق حكيم والفلسفة والتفكير العقلي من أهم الطرق التي تساعد الإنسان على الإطمئنان والإيمان اليقيني بوجود الله على عكس ما يروجه البعض من أن الفلسفة قد تكون سببًا في تذبذب الإيمان وضعفه فهؤلاء لم يدركوا حقيقة أن الفلسفة بحر على خلاف البحور يجد راكبه الخطر والزيغ في سواحله وشطآنه والأمان والإيمان في لججه وأعماقه.

ومن أهم البراهين التي ساقها القرآن والفلاسفة والعلماء للتأكيد على وجود الله ,, برهان النظام (النظم) أو كما يسميه البعض دليل التصميم الذكي، هذا البرهان يتكون من مقدمة أولى حسية لا سبيل لإنكارها وهي .. أن الكون منظم 
مقدمة ثانية عقلية بديهية وهي .. كل منظم لا بد له من ناظم 
ونتيجة .. الكون إذن لابد له من ناظم وهو الله الحكيم المدبر لشئون هذا الكون البديع والمنظم.

ومن أول الفلاسفة اللذين استدلوا على وجود الله بهذا البرهان أناكسوغورس حيث قال:

من المستحيل على قوة عمياء أن تبدع هذا الجمال وهذا النظام اللذين يتجليان في هذا العالم لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد بصير حكيم.

وكذلك أفلاطون كان من أول الفلاسفة القائلين بوجود الله وبأنه الخالق العالم والمدبر ويقيم على ذلك براهين عديدة أهمها برهان النظام فيقول:

أن العالم آية في الجمال والنظام ولا يمكن أبدًا أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية بل هو صنع عاقل كامل توخى الخير ورتب كل شيء عن قصد وحكمة 
ولو تأملنا في القرآن لرأينا بوضوح أنه تناول كل طرق الإستدلال التي سلكها علماء الدين والفلاسفة وتلاقى فيها على الحق مثل دليل الوجوب ودليل الحدوث والعلة الكافية.

ولكنه اعتمد أكثر ما اعتمد على ما في خلق الكون من ابداع واختراع وتصميم وتنظيم وأحكام وإتقان وترتيب واتزان (برهان النظم) وذلك لأنه برهان يتساوى في إدراكه البدوي الساذج والعالم الفيلسوف لأن علام الغيوب سبحانه علم أن الذين يطيقون التعمق في الأدلة العقلية هم القلة من العلماء فقضت حكمته أن يخاطب الناس كافة بالدليل الأيسر الأوضح الأسهل الذي يزداد وضوحًا على مر الأيام كلما تقدم العلم وانكشف للعلماء أسرار النواميس الدالة على النظام ليصدق وعده تعالى ..

سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . ورغم بداهة هذا البرهان وسهولة مقدماته إلا أن البعض لا يؤمن به ويزعم أن الكون تكون بطريق المصادفة!

فدعونا نرى كيف يمكن استبعاد فكرة المصادفة في خلق الكون للرد على هؤلاء 
لو سأل سائل عن هذه الأشياء المشاهدة في العالم كيف تكونت وتركبت وصنعت .

هناك 3 فروض لا ربع لا يمكن أن نتصورها ونفرضها ,,
الأول: أن تكون من صنع الله.

الثاني: أن تكون من صنع ذرات المادة وأجزائها وعناصرها عن إرادة وقصد وغاية.

 أي أن عناصر المادة الأصلية فكرت ودبرت واتفقت على صنع تنوعات هذا العالم بهذه الأشكال والصور التي نراها.

الثالث: أن تكون هذه التنوعات قد تكونت بطريق المصادفة أي أن الذرات تلاقت وتجمعت على نسب وأوضاع مخصوصة بطريق المصادفة فكونت العناصر الأصيلة عن طريق المصادفة وتجمعت وتمازجت بالمصادفة على نسب صالحة بالمصادفة في مدد كافية بالمصادفة وأجواء ملائمة بالمصادفة فتكونت هذه التنوعات وخلقت الحياة من هذه المصادفات

  • أما الفرض الأول فيقول به المؤمنون بالله سواء كان عن هداية دينية أو عقلية
  • والفرض الثالث يقول به بعض الماديين
  • والفرض الثاني لا يقول به أحد مطلقا بل أن الماديين أنكروا إنكارًا واضحًا أن يكون لعناصر المادة إرادة وقصد وغاية.

فلذلك أصبحنا أمام فرضين لا ثالث لهما إما أن تكون تنوعات العالم من خلق الله وصنعه وإما أن تكون نتيجة المصادفة. فلنرى قيمة المصادفة في ميزان العقل السليم ببعض الأحجيات : لو أحضرنا لوح وغرزنا فيه إبرة ووضع في ثقبها إبرة ثانية أخرى، لو رأى إنسان عاقل هاتين الإبرتين وسأل كيف أدخلت الثانية في ثقب الأولى فأخبره إنسان معروف بالصدق أن الذي أدخلها رجل ماهر قذف بها من بعد عشرة أمتار فاستطاع أن يدخلها في شق الإبرة الأولى 
ثم أخبره إنسان أخر معروف بالصدق أيضا أن الذي ألقاها صبي صغير ولد من بطن أمه أعمى فوقعت في الشق بطريق المصادفة … فأي الخبرين يصدق ؟!
نظرا لصدق الرجلين قد يقول البعض يمكن أن تكون المصادفة ممكنة فلا يجوز بترجيح أحد الطرفين على الآخر.

ولكن لو رأينا إبرة ثالثة مغروزة في شق الثانية أيضا أو رأينا عشر إبر كل منها مغروزة في ثقب التي تليها يتقوى عندنا ترجيح القصد حتى تكاد فكر المصادف أن تتلاشى.

ولو أخد أحد يجادل في معنى الإستحالة العقلي والإستحالة العادية ويبرهن أن المصادفة ليست مستحيلة ولكنها تكون أحيانا مستبعدة فلو فرضنا أن الإبر العشرة مرقمة بخطوط لكل منها رقم من الواحد إلى العشرة وقيل أن هذا الصبي الأعمى أعطي كيس فيه هذه الإبر العشرة مخلوطة مشوشة فكان يضع يده في الكيس ويلقيها فتقع في شق بعضها البعض على ترتيب أرقامها بطريق المصادفة

فالمصادفة بهذا التتابع والتعاقب بعيدة جدًا جدًا إن لم تكن مستحيلة بل إنها في مجال الأعداد الكبرى تصبح مستحيلة بداهة

وهذه البداهة تعتمد في أعماق العقل الباطن على قانون عقلي رياضي لا يمكن الخروج عنه وهو قانون المصادفة الذي يقول:

إن حظ المصادفة من الإعتبار يزداد وينقص بنسب معكوسة مع عدد الإمكانيات المتكافئة المتزاحمة فكلما قل عدد الأشياء المتزاحمة ازداد حظ المصادفة من النجاح وكلما كثر عددها قل حظ المصادفة ، أي أنه متى تضخمت النسبة العددية للأشياء المتزاحمة  تضخما هائلا يصبح حظ المصادفة في حكم العدم بل المستحيل 
فلو اتفق للصبي الأعمى في أول مرة سحب الرقم (ا) يكون حظ المصادفة (ا) ضد (10).

ولو اتفق أن سحب الرقمين 1و2 يصبح حظ المصادفة 1ضد100 
وهكذا إذا اقترضنا سحب الإبر العشرة يصبح حظ المصادفة بنسبة 1 ضد عشرة مليارات

وهناك الكثير من الأمثلة التي تدحض قيمة المصادفة في ميزان العقل السليم ولكننا سنكتفي بذكر مثال أخر فقط.


لو فرض أننا نملك مطبعة فيها نصف مليون حرف مفرقة في صناديقها فجاءت هزة أرضية قلبت صناديق الحروف على بعضها وبعثرتها وخلطتها ثم جاء أحد يخبرنا أنه قد تألف من اختلاط الحروف بالمصادفة عشر كلمات متفرقة غير مترابطة المعنى من الممكن أن نصدقه

ولكن لو قال أن الكلمات العشر تؤلف جملة مفيدة نستبعد ذلك ولكن لا نراه مستحيلًا 
ولكن لو أخبرنا أن حروف المطبعة بكاملها كونت عند اختلاطها بالمصادفة كتابا كاملا من 500 صفحة ينطوي على قصيدة واحدة تؤلف بمجموعها وحدة كاملة مترابطة متلائمة منسجمة بألفاظها وقوافيها ومعانيها ومغازيها فهل نصدق ؟!!
فالتزاحم هنا بين الحروف يجري بين 500 ألف حرف على تكوين 125 ألف كلمة بأشكال وترتيبات لا تعد ولا تحصى وهذا يجعل حظ المصادفة بنسبة واحد ضد عدد هائل جدًا جدًا جدًا

هذا في كتاب المطبعة وكلماته المحدودة فما بالك بكتاب الله الأعظم وكلماته التي يقول عنها جلت قدرته (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا)

والمقصود بكتاب الله هنا العالم كله .. كل ما في ملكوت السموات والأرض من شيء محسوس من عالم الخلق أو معقول من عالم الأمر ، فلو نظرنا إلى بعض ما في السموات والأرض على ضوء العلم لنرى ما في خلقه من ذلك التقدير والإتزان والإتقان والإحسان والتقويم التي ذكرها الله تعالى في القرآن ليبرهن على الخلق المقصود ضد المصادفة ونسأل أنفسنا هل يعقل أن يكون هذا الترتيب الشامل الكامل الدقيق المقدر المتزن الجميل بمجرد المصادفة ضد عدد هائل من الممكنات الأخرى المتزاحمة؟.

يكفي فقط إذا تأملنا في خلق العين والأذن واللسان وملائمتهم لأداء وظائفهم 
ومراحل تكون الإنسان في رحم الأم والمسافة الحكيمة بين الأرض والشمس وتركيب الهواء ونسبة الأكسجين فيه وأشياء أخرى لا مجال لذكرها يدركها كل من له قلب سليم ..

وما أجمل أن نختم بأيات من كتاب الله تؤكد حكمته وقصده في خلق الكون ,,

>إن كل شيء خلقناه بقدر<

> وخلق كل شيء فقدره تقديرا <

> وكل شيء عنده بمقدار <

> والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون <

>  وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم <  


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

الاميبا اكلة الدماغ.

الأميبا آكلة الدماغ هي أحد الطفيليات النادرة التي تدخل إلى المخ عن طريق الأنف وتستهلك خلاياهوقد أصيبت بها فتاة ذات
......المزيد

في نقد إيديولوجيا الأجيال الميتافيزيقية* في الخطاب الفلسفي/والثقافي أو إشكالية استرداد الحق الابستمولوجي المهدور

- قراءة نقدية في الحوار المعرفي مع الأستاذ د.حسن ناظم اعتقد أن الأستاذ الدكتور حسن ناظم، قد سلطّ الضوء في
......المزيد

وجود عشوائى-نحو فهم للوجود والحياة والإنسان .

- نحن نتصور ونتوهم بأن هناك نظام ما يحكم الوجود ليرتبه ويقدره ويغمره بحكمته وتدبيره حيث كل الأمور تحت السيطرة
......المزيد

أكرام الضيف والتطور الحضاري

من الصفات الثابتة عند العرب في قديم الزمان وحاضره ، اكرام الضيف والقيام بقضاء حاجته قدر الامكان ، وان كلفهم
......المزيد

فلسفة الضحك

يسير الضحك مع البهجة جنبا إلى جنب، يحاول الفرد الإنساني من خلال ابتسامته أو قهقهته التعبير عن مقتضاه، و يعبرُ
......المزيد

سوسيولوجيا التصوف الشعبي المغربي:نظرات في قضايا المدنس

يعتبر التصوف الشعبي في المغرب مجالا خصبا للدراسة والتحليل رغم ما كتب وألف عنه،وهو رقعة شاسعة لا يمكن لمها بشكل
......المزيد

فـن الـتـعـامـل مـع ذوي الـطـبـاع الـصـعـبـة

1- العدواني إن الشخص العدواني دائمًا يجعل سلاحه سلاح تحدٍّ وتصويب وغضب، وهذا هو ذروة الضغط والسلوك العدواني.
......المزيد

تجربة علمية لتحديد قوة الرياح

إكتشف الإنسان طاقة الرياح منذ زمن بعيد ، فقد استفاد من هذه الطاقة في تسيير السفن و المراكب في البحار
......المزيد

فيديو